إذا كان القريب بعيد القرابة ممن لا تلزم صاحب الزكاة نفقته، فلا حرج في إعطائه من زكاة قريبه سواء إعطاء القريب نفسه، أم غيره من المزكين، أو الإمام أو نائبه، أعني إدارة توزيع الزكاة، وسواء أعطي من سهم الفقراء أو المساكين أم من غيرهما.
أما القريب الوثيق القرابة – كالوالدين والأولاد والإخوة والأخوات والأعمام والعمات … إلخ ففي جواز إعطائهم من الزكاة تفصيل:
فإذا كان القريب يستحق الزكاة لأنه من العاملين عليها أو في الرقاب أو الغارمين أو في سبيل الله، فلقريبه أن يعطيه من زكاته ولا حرج؛ لأنه يستحق الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه، ولا يجب على القريب – باسم القرابة – أن يؤدي عنه غُرمه، أو يتحمل عنه نفقة غزوه في سبيل الله، وما شابه ذلك.
وكذلك إذا كان ابن سبيل يجوز أن يعطيه مئونة السفر.
أما المؤلفة قلوبهم فليس إعطاؤهم من شأن الأفراد، بل من شأن أولي الأمر، كما بينَّا ذلك من قبل.
أما إذا كان القريب الوثيق القرابة فقيرًا أو مسكينًا فهل يعطي من سهم الفقراء والمساكين في الزكاة؟ وللإجابة على ذلك يجب أن نعرف من المعطي؟
فإذا كان الذي يوزع الزكاة ويعطيها هو الإمام أو نائبه، أو بتعبير عصرنا: إذا كانت الحكومة هي التي تتولى جباية الزكاة وصرفها، فلها أن تعطي ما تراه من أهل الحاجة والاستحقاق، ولو كان من تعطيه هو ولد المزكِّي، أو والده أو زوجه (انظر أحكام القرآن لابن العربي ص 965)؛ لأن صاحب الزكاة يدفعها إلى ولي الأمر المسلم، قد أبلغها محلها وبرئت ذمته منها، وأصبح أمر توزيعها منوطًا بالحكومة؛ إذ لم يعد لمال الزكاة بعد جبايته صلة ولا نسب بمالكه من قبل، إنما هو الآن مال الله أو مال المسلمين.
وإذا كان القريب فقيرًا أو مسكينًا وكان من يعطيه هو القريب نفسه، فلابد أن ننظر في درجة قرابته، ومن يكون هو لهذا القريب؟ فإن كان هذا الفقير أبًا للمزكي أو أمًا، أو ابنًا، أو بنتًا – وكان ممن يجبر على النفقة عليهم – بأن كان موسرًا – فلا يجوز الصرف إلى أحد منهم من زكاته.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يُجبر فيها الدافع إليهم على النفقة عليهم ولأن دفع زكاته إليهم يغنيهم عن نفقته، ويسقطها عنه، ويعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه، فلم تجز، كما لو قضى بها دينه (انظر: المغني لابن قدامة: 2/647).
ولأن مال الولد مال لوالديه. ولهذا جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (أنت ومالك لأبيك) (تفسير ابن كثير: 3/305، والحديث رواه أحمد في المسند من ثلاثة طرق – عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده – وصححها الشيخ شاكر. انظر الأحاديث (6678) و (6902) و(7001) الجزء 11، 12). كما رواه ابن ماجه عن جابر، ورجاله ثقات، والطبراني عن سمرة وابن مسعود بإسناد ضعيف، كما في التيسير للمناوي: 1/378. كما اعتبر القرآن بيوت الأبناء بيوتًا للآباء؛ إذ قال تعالى (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) (النور: 61 ).أي بيوت أبنائكم (تفسري القرطبي: 12/ 314)لأنه لم ينص عليهم في الآية كبقية الأقارب، ولأن أكل الإنسان من بيته ليس في حاجة إلى نص في رفع الحرج عنه.
وقال -ﷺ-: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه) (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة بإسناد حسنة الترمذي، وصححه أبو حاتم، كما في التيسير: 1/311، ورواه أحمد أيضًا بنحوه بسند صحيح، وهو جزء من حديث رقم (6678) و(7001).
ومن هنا قال علماء الحنفية: إن منافع الأملاك متصلة بين الوالدين والأولاد، فلا يقع الأداء تمليكًا للفقير من كل وجه، بل يكون صرفًا إلى نفسه من وجه، ولقوة الصلة بينهم لم تجز شهادة بعضهم لبعض (انظر: بدائع الصنائع:2/49).
وكذلك لا يجوز دفع الزكاة إلى الأولاد؛ لأنهم جزء منه، والدفع إليهم كأنه دفع إلى نفسه. ولا يعكر على ذلك الحديث الذي رواه البخاري وأحمد عن معن بن يزيد قال: أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند المسجد، فجئت فأخذتها، فقال: والله ما إياك أردت، فجئت فخاصمته إلى رسول الله -ﷺ- فقال: (لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن) إذ الظاهر من هذه الصدقة أنها صدقة تطوع – كما قال الشوكاني – وليست الزكاة المفروضة (انظر: نيل الأوطار:4/189).
ولم يخالف في ذلك إلا ما نقل عن محمد بن الحسن ورواية عن أبي العباس من الشيعة: أنها تجزئ في الآباء والأمهات، وأيد ذلك جماعة من متأخري الزيدية، فجوزوا صرفها في جميع القرابة من الأصول والفصول وسائر ذوي الرحم. واحتجوا بأن الأصل شمول العمومات لهم، ولا مخصص صحيح يخرجهم عنها (الروض النضير: 2/421). كما روي عن مالك: أنه يجوز الصرف في بني البنين وفيما فوق الجد والجدة (نيل الأوطار: 4/189). وكأن ابن المنذر وصاحب البحر -رحمهما الله- لم تصح عندهما هذه الروايات، إذا حكيا الإجماع على أنه لا يجوز صرف الزكاة في الأصول – من الآباء والأمهات والأجداد والجدات – والفصول – من الأولاد وأولاد الأولاد (انظر البحر الزخار: 2/186).
والحجة التي ذكرها ابن المنذر وغيره هي سند هذا الإجماع، وذلك “أن دفع زكاته إليهم يغنيهم عن نفقته ويسقطها عنه، ويعود نفعها إليه فكأنه دفعها إلى نفسه”.
وقد قيد ابن المنذر نقل الإجماع على عدم جواز الدفع إلى الوالدين بالحال التي يجبر فيها الدافع إليهم على النفقة عليهم. فإذا لم تتحقق هذه الحال – بأن كان الولد معسرًا – وملك نصابًا وجبت فيه الزكاة – فقد قال النووي: إذا كان الولد أو الوالد فقيرًا أو مسكينًا وقلنا في بعض الأحوال: ” لا تجب نفقته”، فيجوز لوالده وولده دفع الزكاة إليه من سهم الفقراء والمساكين، لأنه حينئذ كالأجنبي (المجموع: 6/229).
وقال ابن تيمية: يجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا، وإلى الوالد وإن سفل، إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم. أيد ذلك بوجود المقتضى للصرف (وهو الفقر والحاجة) السالم عن المعارض (أي لم يوجد مانع شرعي يعارض هذا المقتضى) قال ابن تيمية: وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وإذا كانت أم فقيرة، ولها أولاد صغار لهم مال، ونفقتها تضر بهم. أعطيت من زكاتهم (اختيارات ابن تيمية ص 61 – 62).
وما قيل في الوالدين والأولاد يقال في الزوجة أيضًا. ولهذا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة، وذلك لأن نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن أخذ الزكاة، فلم يجز دفعها إليها، كما لو دفعها إليها على سبيل الإنفاق عليها (انظر المغني: 2/649، ونيل الأوطار: 4/188).
ثم إن الزوجة من زوجها كأنه نفسه أو بعضه، كما قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا) (الروم: 21). وبيت زوجها هو بيتها كما قال الله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن) (الطلاق: 1 .. وهي بيوت الزوجية، التي هي ملك الأزواج عادة).
وما قاله بعضهم (انظر: المجموع: 6/229 – 230، ونيل الأوطار: 4/188، والروض النضير: 2/420). من جواز صرف الزوج من زكاته إلى زوجته فلا يعتد به؛ لأنه في الحقيقة إنما يعطي باليمين ليأخذ بالشمال.