حجاب المرأة:
وقد قام التشريع الإسلامي في هذا الجانب على سد الذرائع إلى الفساد، وإغلاق الأبواب التي تهب منها رياح الفتنة كالخلوة والتبرج، كما قام على اليسر ودفع الحرج والعنت بإباحة ما لابد من إباحته استجابة لضرورات الحياة، وحاجات التعامل بين الناس كإبداء الزينة الظاهرة للمرأة . مع أمر الرجال والنساء جميعًا بالغض من الإبصار، وحفظ الفروج: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم) (النور: 30 – 31)، (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن). (النور: 30 – 31).
وقد روى المفسرون عن ابن عباس في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) (النور: 31)، قال: الكف والخاتم والوجه، وعن ابن عمر: الوجه والكفان، وعن أنس: الكف والخاتم، قال ابن حزم: وكل هذا عنهم في غاية الصحة، وكذلك عن عائشة وغيرها من التابعين.
وتبعًا للاختلاف في تفسير (ما ظهر منها) اختلف الأئمة في تحديد عورة المرأة اختلافًا حكاه الشوكاني في ” نيل الأوطار “. (نيل الأوطار، جـ 2، ص 68).
فمنهم من قال: جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، وإلى ذلك ذهب الهادي والقاسم في أحد أقواله، وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه، ومالك . ومنهم من قال: ما عدا الوجه والكفين والقدمين والخلخال . وإلى ذلك ذهب القاسم في قول، وأبو حنيفة في رواية عنه، والثوري، وأبو عباس.
وقيل: بل جميعها إلا الوجه، وإليه ذهب أحمد بن حنبل وداود.
هل وجه المرأة عورة:
والذي تدل عليه النصوص والآثار، أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وهو ما روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما من الصحابة والتابعين والأئمة، واستدل ابن حزم – وهو ظاهري يتمسك بحرفية النصوص – بقوله تعالى: (وليضربن بخمرهن) (الخمر: جمع خمار، وهو غطاء الرأس، والجيوب: جمع جيب، وهي فتحة الصدر في الثوب) على إباحة كشف الوجه، حيث أمر بضرب الخمر على الجيوب لا على الوجوه، كما استدل بحديث البخاري عن ابن عباس أنه شهد العيد مع رسول الله ﷺ، وأنه عليه السلام خطب بعد أن صلى، ثم أتى النساء، ومعه بلال، فوعظهن وذكَّرهن وأمرهن أن يتصدقن .
قال: فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه – أي المال – في ثوب بلال . قال: فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله ﷺ رأى أيديهن، فصح أن اليد من المرأة ليست بعورة.
وروى الشيخان وأصحاب السنن عن ابن عباس، أن امرأة من خثعم، استفتت رسول الله ﷺ في حجة الوداع، والفضل ابن العباس رديف رسول الله ﷺ، وفي الحديث: أن الفضل جعل يلتفت إليها – وكانت امرأة حسناء – وأخذ النبي يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، وفي بعض ألفاظ الحديث ” فلوّى ﷺ عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك ؟ فقال ﷺ: ” رأيت شابًا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما ” وفي رواية: فلم آمن عليهما الفتنة .
وقد استنبط بعض المحدثين والفقهاء من هذا الحديث: جواز النظر عند أمن الفتنة حيث لم يأمر النبي ﷺ المرأة بتغطية وجهها، ولو كان وجهها مغطى، ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء، وقالوا: لو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل النبي ﷺ ولو لم يكن فهمه صحيحًا ما أقره النبي عليه.
وهذا بعد نزول آية الحجاب قطعًا، لأنه في حجة الوداع سنة عشر، والآية نزلت سنة خمس.
معنى الغض من البصر:
والمرأة، في هذا كالرجل، فيجوز لها أن تنظر – مع الأدب والغض – ما ليس بعورة من الرجل . وقد روى أحمد وغيره عن عائشة أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله في يوم عيد . قالت: فاطلعت من فوق عاتقه، فطأطأ لي منكبيه، فجعلت انظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت، ثم انصرفت.
وذهب بعض الشافعية إلى أنه لا يجوز للرجل أن يرى امرأة، ولا للمرأة أن ترى رجلاً، واستند إلى ما رواه الترمذي عن أم سلمة وميمونة – زوجي النبي – أن رسول الله أمرهما بالاحتجاب من عبد الله بن أم مكتوم . . فقالتا له: أليس أعمى لا يبصرنا ؟ قال: ” أفعمياوان أنتما . . . ألستما تبصرانه ؟ ! “.
وليس لصاحب هذا الرأي حجة بهذا الحديث، فالحديث لم يسلم من الطعن: طعن في سنده وطعن في دلالته ومهما تسوهل فيه فليس في درجة الأحاديث التي رويت في الصحيحين، وهي تفيد جواز الرؤية، ومنها أحاديث فاطمة بنت قيس التي أمرها الرسول أن تقضي عدتها في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده.
وقال الحافظ ابن حجر: إن الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم لعله لكون الأعمى مظنة أن يتكشف منه شيء وهو لا يشعر به . وقد كان كثير من العرب لا يلبسون السراويل.
وجعل أبو داود حديث أم سلمة وميمونة، مختصًا بأزواج النبي ﷺ . وحديث فاطمة بنت قيس وما في معناه لعامة النساء، واستحسنه ابن حجر وغيره، وهو الذي نميل إليه . فإن لنساء النبي ﷺ وضعًا خاصًا بحيث ضاعف الله العذاب مرتين لمن يأتي منهن بفاحشة، كما ضاعف الأجر مرتين لمن تعمل منهن صالحًا .
وقال القرآن: (يا نساء النبي، لستن كأحد من النساء .. . .)، وجعل لهن أحكامًا خاصة لمنزلتهن وأمومتهن الروحية للمؤمنين، وقد تكفلت ببيانها سورة الأحزاب.
عادة الحجاب:
فقد أجمع المسلمون على شرعية صلاة النساء في المساجد مكشوفات الوجوه والكفين – على أن تكون صفوفهن خلف الرجال، وعلى جواز حضورهن مجالس العلم.
كما عرف من تاريخ الغزوات والسير أن النساء كن يسافرن مع الرجال إلى ساحات الجهاد والمعارك، يخدمن الجرحى، ويسقينهم الماء، وقد رووا أن نساء الصحابة كن يساعدن الرجال في معركة “اليرموك .
كما أجمعوا على أن للنساء المحرمات في الحج والعمرة كشف وجوههن في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ورمي الجمار وغيرها، بل ذهب الجمهور إلى تحريم تغطية الوجه – ببرقع ونحوه – على المحرمة لحديث البخاري وغيره: ” لا تنتقب (لا تلبس النقاب) المرأة المُحْرِمة، ولا تلبس القفازين .
ومن الفتاوى السديدة ما أفتى به ابن عقيل الفقيه الحنبلي ردًا على سؤال وُجِّه إليه عن كشف المرأة وجهها في الإحرام – مع كثرة الفساد اليوم -: أهو أولى أم التغطية.
فأجاب: بأن الكشف شعار إحرامها، ورفع حكم ثبت شرعًا بحوادث البدع لا يجوز، لأنه يكون نسخًا بالحوادث، ويفضي إلى رفع الشرع رأسًا . وليس ببدع أن يأمرها الشرع بالكشف، ويأمر الرجل بالغض، ليكون أعظم للابتلاء، كما قرب الصيد إلى الأيدي في الإحرام ونهى عنه . ا هـ . نقله ابن القيم في بدائع الفوائد.
هذا موجز رأي الشريعة في مسألة الحجاب والسفور، كما بينته مصادرها الصحيحة.