يقول الشيخ سعيد حوى ـ رحمه الله ـ
اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة وهي ستة أمور:
الأول: التظلم فإن من ذكر قاضيًا بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتابًا عاصيًا إن لم يكن مظلومًا، أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به قال ﷺ: “إن لصاحب الحق مقالاً” وقال عليه الصلاة والسلام: “مطل الغني ظلم” وقال عليه السلام: “لي الواجد يحل عقوبته وعرضه”. [اللي: المطل].
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى منهج الصلاح، كما يروى أن عمر رضي الله عنه مر على عثمان – وقيل: على طلحة – رضي الله عنه- فسلم عليه فلم يرد السلام، فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فذكر له ذلك، فجاء أبو بكر إليه ليصلح ذلك ولم يكن ذلك غيبة عندهم، وكذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن أبا جندل قد عاقر الخمر بالشام كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم: (حم* تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم* غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) [غافر: 3-1] فتاب، ولم ير ذلك عمر ممن أبلغه غيبة، إذ كان قصده أن ينكر عليه ذلك فينفعه نصحه ما لا ينفعه نصح غيره، وإنما إباحة هذا بالقصد الصحيح فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حرامًا.
الثالث: الاستفتاء كأن يقول للمفتي، ظلمني أبي أو زوجتي أو أخي فكيف طريقي في الخلاص؟ والأسلم التعريض بأن يقول: ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو زوجته؟ ولكن التعيين مباح بهذا القدر لما روى عن هند بنت عتبة أنها قالت للنبي ﷺ: “إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي أفآخذ من غير علمه فقال: “خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف” فذكرت الشح والظلم لها ولودها ولم يزجرها ﷺ إذ كان قصدها الاستفتاء.
الرابع: تحذير المسلم من الشر، فمثلا إذا رأيت فقهيًا يتردد إلى مبتدع أو فاسق وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه فلك أن تكشف له بدعته وفسقه، مهما كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة والفسق لا غيره. وذلك موضع الغرور إذ قد يكون الحسد هو الباعث ويلبس الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق، وكذلك من اشترى مملوكًا وقد عرف المملوك بالسرقة أو بالفسق أو بعيب آخر فيجوز أن يذكر ذلك، فإن السكوت ضرر للمشتري وفي ذكر ضرر العبد، والمشتري أولى بمراعاة جانبه، وكذلك المزكي إذا سئل عن الشاهد فله الطعن فيه إن علم مطعنًا، وكذلك المستشار في التزويج وإيداع الأمانة له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير لا على قصد الوقيعة. فإن علم أنه يترك التزويج بمجرد قوله: لا تصلح لك، فهو الواجب وفيه الكفاية وإن علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح بعيبه فله أن يصرح به، وكانوا يقولون ثلاثة لا غيبة لهم: الإمام الجائر والمبتدع والمجاهر بفسقه.
الخامس: أن يكون الإنسان معروفًا بلقب يعرب عن عيبه كالأعرج والأعمش، فلا إثم على من يقول: روى أبو الزناد عن الأعرج، وسلمان عن الأعمش، وما يجري مجراه فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف، ولأن ذلك قد صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن قد صار مشهورًا به، نعم إن وجد عنه معدلاً وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو اولى، ولذلك يقال للأعمى: البصير، عدولاً عن اسم النقص.
السادس: أن يكون مجاهرًا بالفسق كالمخنث وصاحب الماخور والمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وكان ممن يتظاهر به بحيث لا يستنكف من أن يذكر له ولا يكره أن يذكر به، فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك، وقال عمر رضي الله عنه: ليس لفاجر حرمة وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر إذ المستتر لا بد من مراعاة حرمته، وقال الصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاسق المعلن بفجوره ذكرى له بما فيه غيبة له؟ قال: لا ولا كرامة. وقال الحسن: ثلاثة لا غيبة لهم: صاحب الهوى والفاسق المعلن بفسقه والإمام الجائر، فهؤلاء الثلاثة يجمعهم أنهم يتظاهرون به وربما يتفاخرون به، فكيف يكرهون ذلك وهم يقصدون إظهاره؟ نعم لو ذكره بغير ما يتظاهر به أثم. (انتهى).
وأما الشكوى فإن كان بغرض استرداد حق أو دفع ظلم أو استفتاء ومعرفة الخطأ من الصواب أو الحلال من الحرام فهي مشروعة، وإلا فلا يشرع فيها ذكر ما يكرهه الغير ، وأما سماع الشكوى فلا بأس به ، شريطة أن ينكر السامع ما قد يقع من الغيبة ولا يقر الشاكي ولا يسكت، ولا بأس أن يكون ذلك بطريقة مهذبة مناسبة ، حتى لا يترتب على الإنكار منكر آخر، وخاصة مع الوالدين، ولكن لا محاباة في إنكار المنكر ، ويجب الإنكار أيا كان الفاعل، فليقل السامع للمغتاب : ( ولا يغتب بعضكم بعضا) مذكرا له بنهي الله تعالى عن الغيبة.
والأصل في تكفير الغيبة طلب العفو ممن اغتيب دون ذكر تفصيل ما حدث من غيبة، وهذا في الغالب لا يسبب حرجا ، بل العكس، ولكن إذا غلب على الظن أو تأكد المغتاب من أن من اغتابه يجد منه في نفسه إن طلب السماح والعفو منه فلا بأس أن يترك الطلب ولا يعلمه، ولكن عليه بالاستغفار له مع نفسه والدعاء أيضا .