يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
إن مراتب الناس متفاوتة في امتثالهم لأمر الله تعالى، واجتنابهم لنهيه.
ولهذا تفاوتت درجات إيمانهم وقربهم من الله عز وجل، ومن هنا قرر سلف الأمة أن الإيمان يزيد وينقص، ودل على ذلك بالكتاب والسنة، فمن الخطأ الفاحش تصور الناس جميعا ملائكة أولى أجنحة، بلا أخطاء ولا خطايا، ناسين العنصر الطيني الذي خلقوا منه، والذي يشدهم إلى الأرض لا محالة.
وهذه الحقيقة -حقيقة تفاوت الناس في الإيمان والطاعة لله- قد قررها القرآن الكريم، كما أكدتها سنة رسول الله ﷺ.
قال تعالى في سورة فاطر: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ذلك هو الفضل الكبير، جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير).
أصناف الناس في العبادة
قسم الله عز وجل الأمة التي أورثها الكتاب، واصطفاها من عباده ثلاثة أصناف:
1. ظالم لنفسه، وهو كما قال ابن كثير، المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب بعض المحرمات.
2. مقتصد، وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.
3. سابق للخيرات، وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات، وبعض المباحات.(تفسير ابن كثير ج3 ص454-555 :ط الحلبي)
فهؤلاء الثلاثة على ما في بعضهم من عوج وتقصير وظلم للنفس داخلون في الذين اصطفاهم الله من عباده.
وهؤلاء الأصناف الثلاثة ينطبقون على الطبقات أو المراتب الثلاث المذكورة في حديث جبريل المشهور: وهي “الإسلام” و”الإيمان” و”الإحسان”. وأخبر الله تعالى عن هؤلاء الأصناف الثلاثة -وفيهم الظالم لنفسه- بأنهم من أهل الجنة.
وصح عن ابن عباس في تفسير الآية قوله: هم أمة محمد ﷺ ورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.(المصدر السابق)
وليس المراد بـ “المحرمات” التي يرتكبها الظالم لنفسه “الصغائر” فقط دون “الكبائر” ولا المراد به التائب من جميع الذنوب، لأن هذا وذاك -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية– يدخل في صنف المقتصد أو السابق “فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو من ذنب. كل من تاب كان مقتصدا أو سابقا”.
كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم).
فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه، وموعود الجنة. ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا.(من كتاب “الإيمان” من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج7 ص485:ط الرياض)
على أن المسلم مهما يكن مقتصدا أو ظالما لنفسه، فعليه أن يكره الكفر والفسوق والعصيان، ولا يرضى بالمنكر الذي تطفح به الحياة من حوله. فإن أدنى درجات الإيمان أن يغير المسلم المنكر بقلبه، أي يكرهه ويتألم له ويسخط عليه، وأرفع من ذلك درجة أن يغيره بلسانه إن استطاع، وأرفع من هذه أن يغيره بيده إن استطاع. وهذا ما جاء به الحديث الصحيح المشهور على الألسنة (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
أضعف الإيمان التغيير بالقلب
فإذا كان التغيير بالقلب -بالمفهوم الذي شرحناه- أضعف الإيمان، فمعنى هذا أن من فقد هذه الدرجة -درجة أضعف الإيمان- فقد الإيمان كله، ولم يبق له منه شيء.
وهذا ما صرح به الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي ﷺ (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه يخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
فالحديث الشريف يصرح بأن من لم يجاهد هؤلاء الفسقة والظالمين بقلبه -أي يكره أعمالهم وظلمهم وفسقهم- ليس عنده من الإيمان حبة خردل. وبعبارة أخرى، ليس عنده أقل القليل من الإيمان.
غير أن هذا الأمر مرده إلى ضمير المسلم وقلبه، فهو الذي يستطيع أن يحكم على نفسه أهو راض عن المنكر أم هو ساخط عليه؟ وإن كان راضيا عن صاحب المنكر: أهو راض عنه لأجل فسقه وظلمه وانحرافه عن شرع الله أم لأجل شيء آخر، مثل مصلحة أصابها منه، أو قرابة بينه وبينه، أو غير ذلك. وإن كان الواجب على المؤمن أن يكون مناط قربه أو بعده من الناس هو مدى اتصالهم بالإسلام أو انفصالهم عنه.