بناء المساجد من أعظم القربات إلى الله تعالى ، ولابد فيها من إخلاص النية لله ، وإن كان المسلم مطالب بإخلاص النية في كل أعماله ، فهي في القربات أولى وآكد .
ومن مظاهر الإخلاص في بناء المساجد ألا يبتغى بالبناء إلا وجه الله ، وألا يكون إلا للعبادة العامة ، وألا يقصد به الإضرار العام بأي شكل من أشكاله ، ويكره أن يكون المسجد باسم من بناه ، أو باسم العائلة ، وإن سمي ، جاز مع الكراهة على المختار .
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
أول ما ينبغي أن تُؤسَّس عليه المساجد، هو: تصحيح النية، بمعنى أن يَجعل قَصْدَه من بناء المسجد: ابتغاءَ مَرضاة الله، ليَذكر المسلمون فيه اسم الله، ويُؤدُّوا فرائضه، ويُعظِّمُوا شعائره، ويَجتمِعوا على طاعته، ونُصرة دينه.
ولهذا كانت المساجد تُضاف إلى الله، وتُسمَّى (بيوت الله) و(مساجد الله) كما قال تعالى: (وأنَّ المساجدَ للهِ فلا تَدْعوا مع اللهِ أحدًا) ( الجن:18)، (ومَن أظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مساجدَ اللهِ أنْ يُذْكرَ فيها اسمُه) ( البقرة: 114).
وقال ـ ﷺ ـ: “وما اجتَمع قوم في بيت من بيوت الله يَتلُون كتاب الله ويَتدارُسونه بينهم إلا غَشيتْهم الرحمة.. الحديث” (رواه مسلم عن أبي هريرة) يعني بيوت الله: المساجد.
والثواب العظيم الذي وَعَد الله به رسول الله ـ ﷺ ـ مَن بَنَى مسجداً، إنما خص به من بناه لله،أو ابتغاء وجه الله، لا لطلبِ شُهْرة أو مَغْنَمٍ أو مُراعاة للناس.
يقول عثمان ـ رضي الله عنه ـ للصحابة عند قول الناس فيه عندما بنى المسجد النبوي ووَسَّعه في خلافته: إنكم قد أكثرتُم علي، وإني سمعت رسول الله ـ ﷺ ـ يقول: “من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله، بَنَى الله له بيتاً في الجنة”، وفي رواية: “بنى الله له مثله في الجنة” (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان” 306و1879″).
فلم يجعل هذا الجزاء العظيم إلا لمن بناه يبتغي به وجه الله عز وجل.
وسواء كان المسجد كبيرًا أم صغيرًا، فالواجب أن تَبعَث عليه هذه النية الخَيِّرَة: أن يكون لله، لا لأحد مِن خَلْقه.
فعن أبي ذر أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: “من بَنَى لله مسجدًا قدر مِفْحَصِ قَطاة، بَنى الله له بيتًا في الجنة” (رواه البزار واللفظ له، والطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات “2/7”).
وبهذه النية الصالحة يُؤسَّس المسجد على التقوى من أول يوم، كما أُسِّس مسجد النبي ـ ﷺ ـ في المدينة، ومسجدِ قُباء، وغيرهما من المساجد.
وكل مسجد بُنِيَ بغير هذه النية، بل ببواعثَ أخرى غير عبادة الله، وجَمْعِ الناس على طاعته والإخلاص له، هو مسجد لا خَير فيه، ولا بركة تُرجَى من ورائه، ولو عُرفتْ هذه الدوافع الشِّريرَة، وظَهرتْ دلائلها للعِيان مكشوفةَ القناع، فيَجب على أهل الإيمان أن يَتَّخِذوا موقفًا من هذا البُنيان الذي أُسس على غير تقوى من الله ورضوان، كما وقف النبي ـ ﷺ ـ من (مسجد الضرار) المعروف، والذي ذكره الله ـ تعالى ـ في القرآن، وشَدَّدَ النَّكيرَ على مؤسسيه، فقال ـ سبحانه ـ: (والذين اتَّخَذُوا مَسجِدًا ضِرارًا وكُفْرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمَنْ حاربَ اللهَ ورسولَه من قبلُ، وليَحْلِفُنَّ إنْ أرَدْنا إلا الحُسنَى واللهُ يَشهدُ إنهم لكاذبون . لا تَقُمْ فيه أبدًا لَمَسجِدٌ أُسِّسَ على التقوى مِن أولِ يومٍ أحقُّ أنْ تقومَ فيه فيه رجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتطهَّرُوا واللهُ يحبُّ المُطَّهِرِينَ . أفَمَنْ أَسَّسَ بُنيانَه على تقوى مِن اللهِ ورِضوانٌ خيرٌ أمْ مَنْ أَسَّسَ بُنيانَه على شَفَا جُرُفٍ هارٍ فانْهَارَ به في نارِ جَهنَّمَ واللهُ لا يَهدِي القومَ الظالمين) (التوبة: 107-109).
وقد أرسلَ النبي ـ ﷺ ـ رجلين من الصحابة، وقال لهما: انطلِقا إلى هذا المسجد الظالمِ أهلُه، فاهدِماه وحَرِّقاه، فنَفَّذا ما أمرَهما به النبي ـ ﷺ ـ، وأشعَلا فيه النار، ونزلت الآيات في ذلك من سورة التوبة(انظر: ابن هشام 2/529،530 وزاد المعاد طبعة الرسالة 3/549،550).
وذكر ابن القيم مِن فِقْه هذه القصة وما يُستنبَط منها: تحرَقُ أماكنُ المعصية، التي يُعصَى الله ورسوله فيها وهَدْمها، كما حرق مسجد الضرار، وأمَر بهَدْمِه، وهو مسجد يُصلَّى فيه، ويُذكر اسم الله فيه، لمَّا كان بناؤه ضِرارًا وتفريقًا بين المؤمنين، ومأوًى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه فواجبٌ على الإمام تعطيله، إمَّا بهَدْمه وتَحريقه، وإما بتغيير صُورَته وإخراجه عما وُضِع له (زاد المعاد: 3/571).
ومن هنا كَرِه الإمام النخعي وغيره من السلف أن يُقال: مسجد بني فلان (ومن باب أولى أن يقال: مسجد فلان)؛ لأن المساجد بيوت الله.
قال الزركشي: والمشهور الجواز، وقد تَرجم له البخاري (هل يُقال: مسجد بني فلان؟) وأورد فيه حديث ابن عمر: أن ـ ﷺ ـ سابَق بين الخيل التي لم تَضمُر، من “التنبة”، إلى مسجد بني رُزيق: وليستِ الإضافة هنا للمِلك، وإنما هي للتمييز. (أي التعريف بالمساجد والتفريق بينها) ومثل ذلك لا يَمتنِع (إعلام الساجد: ص384،385).
ومن دلائل إخلاص النية: أن يَتخيَّر باني المسجد أي البقع أحوج إليه، ولا يَتقيَّد بأن يكون بجوار منزله، كما يَحرِص على ذلك الكثيرون؛ بل قد يرى أن بلدًا آخرَ من بلاد المسلمين أشدُ حاجة من بلده إلى بناء المسجد، لكثرة المصلين وقلة الإمكانات، حتى إنهم ليُصلُّون في العَراء، أو في مساجد لا تَقِي من الحَرِّ ولا من القَرِّ، ولا تُكِنُّ من الشمس ولا من مطر، فيَبني المسجد هناك، بل وربما تكون أكبر وأوسع.