ليس من الحكمة ولا مما يطلبه الإسلام أن يتفرغ كل طلاب المسلمين لتعلم العلم الشرعي، تاركين علوم الدنيا ، فهناك من العلوم التي يتوجب على المسلمين تعلمها ، ويأثم المسلمون بتركها ، ولعل هذا في مجالات الحياة كلها ، فالطب والهندسة والمحاسبة والمهن وعلوم التكنولوجيا والعلوم الإدارية والعسكرية والاقتصادية والسياسية ، وغيرها هي من العلوم التي يجب تعلمها وتوفير عدد فيها في المجتمع المسلم ، وإن كان الإسلام جاء برسالة عالمية ، فمن الواجب معرفة كل ما في الدنيا من علوم ، وليس من الحكمة ترك العلم الدنيوي لدراسة العلم الشرعي ، فلابد من التخصص في كليهما على عموم الأمة .
يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي :
أعدل ما قيل في علوم الدنيا ما قاله الإمام الغزالي، وهو أن فرض الكافية منها: كل علم لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حَرِجَ أهل البلد (يعني: دخل عليهم الحرج والمشقة) وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين (أقول: وقد يحتاج البلد أكثر من واحد، فالمهم أن يوجد العدد الذي يكفي ويسد الحاجة المطلوبة).
قال : “ولا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا البلد من الحجَّام (الذي يقوم بجراحة الحجامة، وهو نوع من الجراحة الخفيفة) تسارع الهلاك إليهم، وحَرِجُوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله.
“وأما ما يُعَدُّ فضيلة لا فريضة، فالتعمق في دقائق الحساب، وحقائق الطب، وغير ذلك مما يُستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة القَدْر المحتاج إليه .
وما قاله الغزالي هنا قوي وموافق لمقاصد الشريعة، فإنها تقصد إلي إنشاء أمة قوية عزيزة مكتفية بذاتها، قادرة على التصدي لأعدائها، وهذا يوجب عليها ـ بالتضامن ـ أن تتفوق في كل العلوم الطبيعية والرياضية التي تحتاج إليها الأمم في عصرنا لتنمو وتتقدم، وليس الطب والحساب فقط، فإنما قال هذا باعتبار زمانه، كما تحتاج الأمة في زمننا إلي الصناعات التكنولوجية المتطورة، وليس أصول الصناعات القديمة وحدها، فكل ما يؤدي إليها، ويعين عليها، فهو فرض كفاية على الأمة، حتى تكون سيدة نفسها، ولا تكون عالة على غيرها.
إن الغرب قد ساد العالم في عصرنا ـ ومنه العالم الإسلامي ـ بما ملك من علوم الدنيا، من الفيزياء والفلك والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا وغيرها، وأنشأ ثورة بل ثورات في العلوم ولاسيما في مجال الإلكترونيات والفضائيات والذرة والهندسة الوراثية وغيرها، وفي مجال الأسلحة والأدوية ونحوها.
وقد أدي انفصال الإيمان عن العلم في الغرب : أن أصبح هذا العلم ـ في الجانب العسكري ـ خطرًا يهدد العالم بأسلحة الدمار الشامل: النووية والكيماوية والجرثومية.
كما أصبح مجالاً لصناعة أدوية غير مأمونة، بل غير مشروعة، يروجها أناس لا يخشون خالقًا ولا يرحمون مخلوقًا.
وكذلك أمسى الناس يخافون من تطور علم (الجينات) وتقدم الهندسة الوراثية، والقدرة على استنساخ الحيوان: أن يدخل ذلك عالم الإنسان.
ولا علاج لذلك إلا أن يكون العلم في حضانة الإيمان، وأن يدور فلك القيم والأخلاق، وهذا ما يوفره الإسلام لأهله: حيث يوجب على المسلم أن يكون العلم نافعًا للناس لا ضارًّا بهم، وقد استعاذ النبي الكريم من علم لا ينفع.
مناقشة للإمام الغزالي في اعتباره تعلُّم الدقائق فضيلة لا فريضة :
هذا ولا نوافق الإمام الغزالي على اعتباره التعمق في دقائق الحساب، وحقائق الطب: مجرد فضيلة لا فريضة، فلعل هذا كان بالنسبة إلى زمنه، أما زمننا فيعتبر التعمق في هذه العلوم وما يشبهها من الرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء وعلوم الأرض (الجيولوجيا) والأحياء (الحيوان والنبات) وعلوم البحار والصحراء، والتشريح ووظائف الأعضاء وغيرها، بحيث يصل إلى دقائقها، ويرتقي إلى حقائقها: فريضة لازمة، والأمم تتسابق في هذا تسابقًا خطيرًا، كل منها تحاول أن تحتل مكانًا يجعل لها قدرًا، وأن تهيئ الفرص للنوابغ من أبنائها ليتعمقوا ويتفوقوا.
ولولا التعمق في هذه العلوم ما وصل عصرنا إلى تحطيم الذرة، وغزو الفضاء، وصناعة (الكمبيوتر) والإنترنت والثورة التكنولوجية، وثورة البيولوجيا (هندسة الوراثة والجينات) وثورة الاتصالات، وثورة المعلومات، وغيرها مما أمسى من خواصِّ عصرنا.
وقد لا يكفي واحد متخصص في جانب لإسقاط الحرج والإثم عن الأمة، إنما هذا بحسب الحاجة، والغالب أن الأمة تحتاج في كل مجال إلى فريق كامل من الخبراء، يسدون الثغرة، ويلبون الحاجة، ويورِّثون الخبرة لمن بعدهم.