ساعة الموت من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله ، والأدلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم، لقوله تعالى : “إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (34 : لقمان) ، ويؤكد الله سبحانه أن بيده وحده قضاء الموت على عباده “اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (42 : الزمر)
ويتحدى الله من يشركون به غيره أن يستطيع شركاؤهم التصرف في الموت والحياة : ” اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ” (40 : الروم) ، كما تحدى الله الإنسان أن يكون لديه القدرة على تقديم الموت وتأخيره : ” فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ” ، وقال أيضا : ” وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ” (11 : فاطر) ، “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلاً” (145 : آل عمران) .
وفي السنة النبوية تأكيد لتفرد الله سبحانه بمعرفة ساعة الموت ، ففي حديث ابن مسعود أن رسول الله-ﷺ- قال : ” إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه في أربعين يوما ثم يكون مثل ذلك علقة ثم يكون مثل ذلك مضغة ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ” رواه أبو داوود .
لكن الإنسان بطبعه حريص على طول عمره ، ويتطلع دائما إلى ما يدله على ذلك ، ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : “يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ” ، قال بعضهم في شرح الحديث : (الحكمة في التخصيص بهذين الأمرين أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه ، فهو راغب في بقائها فأحب لذلك طول العمر ، وأحب المال لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبا طول العمر ، فكلما أحس بقرب نفاد ذلك أشتد حبه له ورغبته في دوامه ) .
ولا يوجد تعارض بين علم الله الأزلي بما هو كائن من أعمار الناس إلى يوم القيامة ، وبين الأخذ بأسباب البقاء كالتداوي والمحافظة على الصحة والإقلاع عن التدخين وممارسة الرياضة ، فكلها أسباب تؤدي إلى الحفاظ على الحياة دون مخالفة لقدر الله النافذ ، وبما أن البشر لا علم لهم بما يخبئه الله لهم من الأقدار والأعمار ، فيجوز لهم أن يأخذوا بكل أسباب البقاء التي تساعد على امتداد الأعمار ، والإنسان يدفع القدر بالقدر، وكل ذلك مكتوب عند رب العالمين .
نحن نعلم مثلا أن التدخين يدمر الصحة ويؤدي إلى الهلاك ، فنتخذ من الأسباب ما يؤدي إلى الصحة ويحمي من الهلاك مع العلم بأن الأعمار بيد الله ، والمرض فيه خطورة على الإنسان لذلك فإننا ندفعه بالتداوي ، مع العلم بأن الشفاء بيد الله .
وفي القرآن مثال بيّن : ” قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ” (الأحزاب 16) قال السعدي في تفسير الآية : والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة، ظنها الإنسان تنجيه .
وكان علي بن أبي طالب يخوض المعارك وهو يقول :
أي يوميّ من الموت أفرّ؟ ** يـوم لا يقـدّر أو يوم قُدِّر ؟
يـوم لا يُقـدّر لا أحْذَره ** ومن المقدور لا ينجي الحـذر
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
إن الله قدر الأسباب والمسببات ، وجعل من سننه في خلقه دفع قدر بقدر ، فيدفع قدر الجوع بقدر الغذاء ، ويدفع قدر العطش بقدر الشرب ، والداء بالدواء ، وكل من الدافع والمدفوع قدر الله ،وحينما ذهب عمر إلى الشام وعلم قبل دخولها أن هناك طاعونًا شاور أصحابه في الرجوع واستقر الرأي على العودة بمن معه بعدًا بهم عن مواطن الخطر ، فقال أبو عبيدة : أنفر من قدر الله يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله . أرأيت لو كان لك واديان أحدهما مخصب والآخر مجدب، أليس إن رعيت المخصب رعيته بقدر الله ؟
ويقول أيضا عن (القدر والآجال) في كتابه “الإيمان بالقدر” :
ومعنى تقدير الآجال قصيرة أو طويلة : أنها مقدرة مع أسبابها ، وليست منفصلة عنها ، كما يتوهم عوام الناس .
فمن قدر له طول الأجل : قدر له أنه سيتهيأ له من الأسباب ، من توافر الغذاء الصحي ، وطيب الهواء النقي ، وممارسة العمل البدني أو الرياضي ، والابتعاد عما يضر بالبدن تناوله ، من المسكرات أو المخدرات أو الأشياء الضارة كالتدخين ، أو طول السهر ، أو ارتكاب المحرمات..فهو بهذه الأسباب يطول عمره ، وهذه الأسباب مقدرة كمسبباتها .
ومن قدر له قصر العمر : قدر له أنه سيبتلى بسوء التغذية ، أو سوء التهوية ، أو الإصابة بعدوى ، أو تناول ما يضره ويؤذيه ، أو يصيبه حادث في طريق ، أو يموت في كارثة عامة كالزلزال ، أو يقتله قاتل عمدا أو خطأً ، فيموت وينتهي أجله ، بواحد من هذه الأسباب أو غيرها ، ولكنه مات في وقته المقدر له ، وفي (أجله المسمى) عند الله .
فلا انفصال في الأقدار بين المسببات وأسبابها بحال ، وخطأ الناس هنا دائما يتمثل في تصورهم تقدير المسببات كالموت والقتل والحوادث والأمراض بمعزل عن الأسباب ، والنبي ﷺ قد فصل في ذلك حين سئل عن الأدوية هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال : “هي من قدر الله” فما أحكمه وأبلغه وأوجزه من جواب !
ويقول الشيخ الرئيس ابن سينا في “القانون” :
إن غاية صناعة الطب حفظ الصحة، لكنها لا تضمن الأمان من الموت، ولا تخلص البدن من الآفات، ولا تبلغ بكل بدن غاية طول العمر الذي يحبه الإنسان مطلقا، وكل ما تقوم به صناعة الطب هو منع العفونة، وتلافي الأسباب العارضة التي تعجل التجفيف، وذلك عن طريق “التدبير الصواب” وهذا يتوقف على أمزجة الأفراد والظروف المحيطة بهم ا.هـ
وقد تكون هناك رسالة تحذير فقط من الأسباب الداعية للهلاك كالتدخين والاكتئاب والسمنة المفرطة ، معتمدا على دراسات حول متوسط العمر الافتراضي للإنسان ، ومتوسط سنوات الحياة المفقودة بسبب السمنة ، ومتوسطات العمر المتوقعة للمدخنين وغير المدخنين ، لكن يكون الهدف حث الإنسان على اتباع حياة صحية .
ولهذا فإذا لم يترتب على مثل هذه التحذيرات رجم بالغيب ، أو تكهن بمعرفة الأعمار ، ولم يترتب على معرفة العمر الافتراضي أمر اعتقادي ، وكان الهدف منها تنبيه الناس إلى ما فيه صلاحهم ، فلا شيء في الاطلاع عليها ، على أن يعتقد المطلع على هذه التحذيرات سواء كانت نشرات أو في مواقع الأنترنت في أن تحديد العمر الافتراضي ليس من التألي على الله ولا من الرجم بالغيب ، ولكن معناه أن هذا مقدار ما تحدثه أنشطته الضارة على صحته وعمره ، كما يجب على أصحاب هذه المواقع وغيرهم ألا يدلسوا على الناس ، فالدعوة للمعاني الفاضلة لا ينبغي أن يكون بكذب أو تغرير .