يقول اللّه تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } البقرة : 183 ، تدل هذه الآية على أمرين ، أولهما أن الصيام من فرائض الإسلام، وثانيهما أنه كان مفروضًا فى الشرائع السماوية السابقة .
أما فرضه فى الإسلام فكان على مرحلتين ، الأولى صيام يوم عاشوراء ، والثانية صيام رمضان ، وصيام رمضان نفسه كان على مرحلتين : اختيارية وإجبارية .
وبيان ذلك فيما يلى :
فى حديث البخارى ومسلم وغيرهما عن عائشة رضى اللّه عنها أن يوم عاشوراء كانت تصومه قريش فى الجاهلية ،وكان رسول اللّه ﷺ يصومه فى الجاهلية ،فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه -وذلك عندما رأى اليهود يصومونه شكرًا لله على نجاة موسى وقومه من الغرق ، فقال “نحن أحق بموسى منكم ” كما رواه الشيخان -فلما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه .
وظاهر هنا أن صوم عاشوراء كان واجبًا ثم نسخ وجوبه بفرض رمضان كما ذهب إليه أبو حنيفة وبعض الشافعية ، وقيل كان صومه مندوبًا مؤكد الندب غير واجب، فلما فرض رمضان بقى مندوبًا ندبًا غير مؤكد ،وهو الوجه الأشهر عند الشافعية .
وبصرف النظر عن وجوبه أو ندبه ، فإن صيام النبى ﷺ فى مكة ربما كان موافقة لقريش فيما بقى من شريعة سابقة كالحج ، أو بإذن من اللّه سبحانه على أنه فعل من أفعال الخير، وصيامه فى المدينة ليس نزولاً على إخبار اليهود له بسببه ،فقد كان يصومه قبل ذلك ، ولكنه استئلاف لهم فيه مع إذن الله له ، كما استألفهم باستقبال بيت المقدس، وقد كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به من الخير .
استمر وجوب صوم عاشوراء سنة واحدة، فقد فرض صيام رمضان فى السنة الثانية من الهجرة فى شهر شعبان لليلتين خلتا منه ، وصام النبى ﷺ رمضان تسع سنوات كما قاله ابن مسعود فى رواية أبى داود والترمذى ، وكما قالته عائشة أيضًا فى رواية أحمد بسند جيد ، وصام منها ثمانية رمضانات تسعة وعشرين يومًا ، وواحدًا ثلاثين يومًا .
وصوم رمضان أخذ مرحلتين فى فرضه . الأولى مرحلة التخيير بينه وبين الفدية والثانية مرحلة الإلزام بالصيام مع استثناء بعض من لهم أعذار، والمرحلة الإلزامية أيضًا كانت على صورتين ، وبيان ذلك :
أن قوله تعالى{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرًا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } البقرة : 184 ، رأى بعض العلماء أنه منسوخ ، مفسرين “يطيقونه ” بمعنى : يقدرون عليه فهو فى طاقتهم ووسعهم فمن قدر على الصيام ولا يريد أن يصوم فعليه أن يفعل خيرًا وهو إخراج فدية طعام مسكين عن كل يوم ، ومن زاد على هذا القدر، فهو خير له ومن صام ولم يخرج فدية فهو خير له .
ولما جرب الناس فائدة الصيام ومرنوا عليه اختاروه على الفِطر مع الفدية ، وعندما تهيأت نفوسهم لحتميته فرضه الله على كل قادر ، ومن كان له عذر من مرض أو سفر فرض عليه قضاء ما أفطره ، وبهذا صار التخيير منسوخًا ، إلا أن أقوال العلماء مضطربة فى تعيين النص الناسخ ، فقال بعضهم إنه {وأن تصوموا خير لكم } وقال بعضهم الآخر إنه قوله تعالى فى الآية التالية للآية التى فيها المنسوخ {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} .
روى البخارى أن أصحاب محمد ﷺ قالوا : نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم ممن يطيقه ، ورخص لهم فى ذلك فنسختها {وأن تصوموا خير لكم } .
ولكن هنا وقفة فى مجىء الناسخ والمنسوخ فى آية واحدة نزلت فيما يبدو مرة واحدة أى دفعة واحدة لا تتجزأ، ولو كان الناسخ آية أخرى تكون قد نزلت بعد فترة لكان ذلك أقرب إلى المعقول ، ولعل هذا يتفق مع قول من قال : إن الناسخ هو قوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه } الموجود فى الآية التالية لآية الحكم المنسوخ .
ويكون قوله تعالى {وأن تصوموا خير لكم } من مكملات التخيير لبيان أفضلية الصوم على الفطر مع الفدية .
وهناك جماعة من المفسرين قالوا : إن آية{وعلى الذين يطيقونه فدية . . . } محكمة وليست منسوخة ، والمعنى أن الذين يتكلفون الصيام بمشقة شديدة كأنه طوق فى أعناقهم لا يصومون وعليهم الفدية، ومن زاد على مقدارها أو تكلف الصيام فهو خير، وهؤلاء هم كبار السن ومن فى حكمهم .
ومهما يكن من شيء فإن الأمر قد استقر عند المجتهدين على أن كبار السن الذين لا يقدرون على الصيام أداء ولا قضاء ، وكذلك المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم لا يجب عليهم الصيام ، وإنما الواجب عليهم هو إخراج الفدية عن كل يوم .
أما المرضى الذين يرجى شفاؤهم فيرخص لهم فى الفطر وعليهم القضاء بنص الآية الكريمة{ ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} .
هذا ، وكانت مدة الصيام أول الأمر هى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، فإذا لم يفطر الصائم عند الغروب ونام لا يجوز له إذا استيقظ من نومه أن يتناول أى مفطر ويظل صائمًا إلى غروب شمس اليوم التالى، كما كان قربان النساء ليلاً محرما على الصائمين طول الشهر، فشق عليهم ذلك فأباح الله لهم التمتع بالنساء ليلاً، ومد لهم فترة الإفطار حتى مطلع الفجر، لا يؤثر على ذلك نوم ولا غيره . . . روى البخارى عن البراء قال : كان أصحاب محمد ﷺ إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسى، وأن قيس بن صرمة الأنصارى كان صائمًا-وفى رواية كان يعمل فى النخيل بالنهار وكان صائمًا - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها :
أعندك طعام ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك . وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته ، فلما رأته قالت :
خيبة لك ! ! -يعنى تأسفت لنومه -فلما انتصف النهار غشى عليه ، فذكر ذلك للنبى ﷺ فنزلت هذه الآية {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ففرحوا فرحًا شديدًا . ، ونزلت {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } .
وفى البخارى أيضًا عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل اللّه تعالى {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ... }والخيانة هنا ارتكاب المعصية .
وجاء فى تفسير القرطبى فى رواية أبى داود أن عمر رضى اللّه عنه أراد امرأته فقالت : إنى نمت ، فظن أنها تعلل بالنوم فباشرها ، كما ذكر الطبرى أن ذلك وقع من كعب بن مالك أيضًا ، ولما رفع الأمر إلى النبى ﷺ نزلت هذه الآية .