بعض الناس قد يخيل إليه أن علم النفس الحديث، بمكتشفاته وإمكاناته وعياداته النفسية، وكشفه عن دخائل النفس ومخبآتها بواسطة ما يسمى: «التحليل النفسي» يستطيع أن يعالج الأنفس المريضة وكل العقد المستعصية، ويقوم بالدور الذي كان يقوم به الدين في الماضي، بطريقة علمية مأمونة، مستمدة من واقع الأرض لا من غيبيات السماء! ولن أرد على هذه الدعوى بنفسي، ولن أدع ردها لأحد من علماء الدين ودعاته المتحمسين له، فربما يقال: أنها بضاعتهم، ومن شأن التاجر أن يروج لبضاعته.
ولكن ندع الرد لأقلام كتاب «مدنيين» ليسوا «مشايخ» ولا أحباراً ولا رهباناً، إنما هم قوم يستندون إلى الواقع، ويحكمون بمنطق التجربة، فلا عذر بعد ذلك للواقعيين، ولا حجة للتجريبيين.
فلنستمع أولاً إلى الصحفي المصري المعروف محمد زكي عبد القادر، يناقش هذا الموضوع في إحدى «يومياته» بجريدة «الأخبار» القاهرية، فيقول:
تلقيت هذا الخطاب: استمعت إلى محاضرتكم في كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية عن « مشكلات الشباب الجامعي»، وقد ذكرتم أننا حتى الآن لا نعرف شيئاً محدداً عن النفس الإنسانية وأسرارها، وأن علم النفس ومدارسه والعيادات النفسية لم تزد روادها إلا تعقيداً، وأشرتم إلى أن العيادات النفسية كثرت في أمريكا كثرة غير عادية، وأنها مع ذلك لم تؤد إلى النتائج التي كان يرجوها من يلجأون إليها، بل إن الكثيرين خرجوا منها وقد ازدادت أمراضهم النفسية سوءاً.
إني أرى أنكم بذلك حطمتم علماً حيوياً ناجحاً إلى حد ما، فبفضله وفضل التحليل النفسي والعالم فرويد والتنويم المغناطيسي استطاع العلماء أن يصلوا إلى باطن الإنسان ومعرفة أمراضه وعقده وشفى الكثيرون”.
هذا هو الخطاب الذي بعث به طالب بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية.
ويجيب الأستاذ عن هذا الخطاب فيقول:
“عرضت لهذا الموضوع، وأنا أتحدث عن نطاق الإيمان المستند إلى وجود قوة عليا مسيطرة، وقلت: إن الإيمان بالله ضرورة يدعو إليها العلم وليست الأديان وحدها. وقلت: إن العلم لم يستطع -ولن يستطيع- أن يحل المشكلات التي يعانيها الإنسان في هذه الدنيا، فهناك حوادث مفاجئة ومآس تقع دون أن تكون لها أسباب مفهومه، ونحن نسندها عادة إلى القدر وإرادة الله … فلو لم نكن على درجة من الإيمان، ما استطعنا أن نتعزى عنها أو نحتملها .. الأم التي تفقد أولادها .. كارثة الطيران التي تودي بعائلة بأسرها أو تقتل الأب والأم وتترك الأطفال، أو تقتل الأطفال وتترك الأم والأب .. حوادث الغرق والانهيار والأعاصير والزلازل والبراكين .. غضب الطبيعة- كما يقولون – على أية صورة وقع هذا الغضب .. الأمراض التي لا شفاء لها .. المتاعب النفسية والعقلية والقلبية والجسدية التي يعجز الإنسان عن إيجاد وسيلة للبرء منها .. وعشرات المصابين في المستشفيات والبيوت ومئات المشوهين بالخلقة هنا وهناك .. وكل ما نراه حولنا من مآس يعجز العلم عن إيجاد حل لها، ويعجز الإنسان -بكل ما أوتى من براعة وقوة وسلطان- عن التخلص منها ..

-كل هذه المتاعب والآلام كيف يتحملها المصابون بها؟

-وكيف يتحملها المحيطون بهم إن لم يستشعروا الإيمان بالله، ويتوجهوا له أن ينقذهم مما عجز الإنسان عن إنقاذهم منه؟

-كيف يتحملونها إن لم يؤمنوا أن هناك قوى نجهل حكمتها؟

-وأن هناك في الدنيا أشياء وتصرفات لا يمكن أن نعيها بما أوتينا من علوم ومقاييس؟

-فلا وسيلة لنا أمامها إلا أن نسلِّم بوجودها، ونسلِّم في الوقت نفسه بقصورنا عن أدراك كنهها؟

وليس معنى ذاك أن ننكر العلم ومجاله، بل معناه أن نؤمن بالعلم في أوسع مجالاته، وأن نترك له الحرية يطرق ما يشاء، ويبحث عما يشاء، فإذا وفق فنحن مؤمنون بما بلغه، وإذا لم يوفق فنحن مؤمنون بالقوة العليا، إلى أن يتاح للعلم أن يحل ألغاز المشكلات التي تحيرنا.
إن العلم حتى الآن، بكل ماله من تاريخ ناصع، وانتصارات عظيمة رائعة مجيدة، لم يستطع أن يعرف: كيف تعمل أعضاء الإنسان كلها، وكيف تتصرف وتنشأ وتمرض وتموت؟؟ لقد وفق في علاج كثير من الأمراض، ولكن لم يوفق في علاج كثير آخر منها … وفق في معرفة بعض وظائف الأعضاء، ولكنه لم يوفق في معرفة سائر الوظائف … وفق في تشخيص بعض الأمراض.

ولكنه عجز عن اقتحام اللغز الأكبر: هل عرف كيف وجد الإنسان؟ .. ولماذا وجد؟ وكيف يموت؟ … ولماذا يموت؟ وماذا بعد الموت؟ وماذا قبل الحياة؟!
كل هذه ميادين لا تزال بكراً، وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت، وعلى الرغم من كل الادعاءات المستندة إلى فهم والمستندة إلى تدجيل وسوء فهم … كل هذه الميادين لا تزال -وستظل إلى ما شاء الله- مجال الإيمان الذي لا يستطيع العلم أن يقتحم منطقته..
ولنأخذ نفس الإنسان، ذلك الجوهر الذي يسعده ويشقيه، يمرضه ويشفيه، يجعله مرحاً كأن الدنيا بين يديه، وفجأة تضيق وكأنها ثقب إبرة .. هذه النفس التي تنحرف وتعتدل، تزكو وتضمر … تكون عبقرية، كأنما يوحى إليها من السماء، وتكون شريرة كأنها لهب من الجحيم … هذه النفس هل عرفناها؟ .. هل حددناها؟ هل صورنا أمراضها واهتدينا إلى علاجها؟
إن علم النفس بكل الجهود المضنية التي بذلها لا يزال يقف عند الشاطئ، ولا تزال نظرياته مجالاً للاختلاف والشك، ولا تزال تتطور جيلاً بعد جيل، وطرائق بعد طرائق…
كان «فرويد» أستاذ هذه المدرسة، وتبعه كثيرون، منهم من سار على منهجه، ومنهم من عارضه، ومنهم من اختلف وإياه في الطريق والنهج .. ترى هل وفق علم النفس حتى اليوم، إلى معرفة النفس؟ .. قد يكون وفق إلى معرفة بعض مظاهرها وانفعالاتها .. قد يكون وفق إلى ردها إلى أسباب تصدق أو تكذب، ولكنه لا يزال جاهلاً هذه النفس.
وقد تعلق الناس بعلم النفس، لأنه علم الحياة، وابتهجوا به وانصرفوا إليه، ظانين أنه سينقذهم من الانحرافات والاندفاعات، من الأمراض العصبية والعقلية، ولكن هل حقق كل ما علقوا عليه من آمال؟ ..
هل حقق بعض ما علقوا عليه من آمال! … الجواب -كما قلت في المحاضرة- عند العيادات النفسية الكثيرة المنبثة في أمريكا بعدد أوفر مما في غيرها!! في هذه العيادات مآس لجأ أصحابها إلى المحللين النفسيين يلتمسون عندهم الشفاء … فهل نجحوا؟ … هل شفى اليائسون من الحياة، لأن نفوسهم مضطربة قلقة معقدة؟ .. إن الإحصائيات لا تستطيع أن تؤكد -وحتى في الحالات التي شفى فيها المريض- أن التحليل النفسي -والتحليل النفسي وحده- كان السبب في الشفاء!!
وفي أمريكا بالذات تكثر الأمراض النفسية والعقلية بصورة لا مثيل لها ؛وفي أمريكا هذه توجد عيادات نفسية لا حصر لها، وكل ما يقوله المحللون النفسيون. أو أكثر ما يقولونه لرواد هذه العيادات إذا كانوا شباناً أو فتيات: أن اذهبوا وتصرفوا كما تشاؤون!! إن أمراضكم النفسية سببها الكبت والخوف من التقاليد والأمراض والعار!! فماذا كانت النتيجة؟ .. كانت هذه الانحرافات التي لا حصر لها، وهذا التحليل الذي دمر -أو كاد- الحياة العائلية، ثم لم يمنح أصحابه السعادة التي كانوا ينشدونها!
هذا هو ما قلته … وهو لا يتضمن إنكاراً لفضل علم النفس، ولكنه يتضمن أن علم النفس لم يوفق، حتى الآن، إلى كشف تلك المنطقة الهائلة الرائعة، الصغيرة الكبيرة، منطقة النفس. وأن كل ما بلغه تحليل لبعض الظواهر، وتعليل لبعض التصرفات، فقد يكون صادقاً وقد لا يكون.
إن ما نعلمه عن الحياة وأسرارها، بفضل كشوف العلوم وتفكير المفكرين لا يزال ضئيلاً جداً إذا قيس إلى ما لا نعلمه ولا نستطيع تعريفه ولا تعليله.
هذا النطاق الواسع مما لا نعلم هو مجال الإيمان بالله .. وهذا النطاق الضيق الذي علمناه هو مجال الإيمان بالعلم، ولا تعارض بين الاثنين، بل بينهما التقارب والتكامل.
أمرنا الله أن نسعى ونعرف ونبحث، وبسط أمامنا آفاق الدنيا لنذهب بها كيف نشاء وأطلق فينا شرارة من لدن ذاته العليا، هي العقل .. هذا العقل يجب أن يرود كل المجاهل، ويحاول كشف الألغاز وتيسير الحياة وتوجيهها وجعلها ممكنة ومحتملة، وإيماننا به إيمان بذات الله العليا .. ولكن هذا العقل قاصر، وكل ما ينتجه مهما يكن لن يبلغ حدود الشمول فالشمول من اختصاص الذات العليا.
إيمان بالعلم هو إيمان بالعقل الذي هو شرارة إلهية يجب أن تنطلق من غير حدود، وإيمان بالله هو إيمان بالمصدر والوحي والكل والشمول والأزل والأبد .. وكل من يقول بغير هذا يدعي، ولا يعطي دليلاً على ما يدعي.
علم النفس كغيره من العلوم مجال للاحترام والتشجيع، ولكن أن أعتمد عليه لكي يكشف لي كل غامض هو اعتماد من غير سند، لا من حقيقة ولا مما وصل إليه، ولا مما ننتظر أن يصل إليه.” أ. هـ