الأصل في بيع الجرائد والمجلات الإباحة ، ولكن قد تطرأ الحرمة على بيع المجلات التي تحدث ضررا نفسيا أو عقليا أو اجتماعيا ،مثل المجلات الجنسية والمجلات التي تدعو إلى نشر الرذيلة والجريمة، وهدم ثوابت الدين والأخلاق داخل المجتمع الإنساني.
فالجرائد والمجلات من وسائل الإعلام والتثقيف ، وهي الآن قد تصل إلى حد الحاجات التي قد لا يستغني عنها كثير من الناس ،وذلك لحاجة الإنسان إلى الاتصال ومعرفة الأنباء المحلية التي تتعلق بوطنه ، والعامة التي تتعلق بأمته ، والدولية التي تتعلق بالعالم كله ،وفي ظل هذا يقرر بداية أن الجرائد والمجلات قد تصل إلى حد الحاجة .
والأصل في بيعها الحل ،لقوله تعالى :”وأحل الله البيع وحرم الربا .
وذلك أن بيع الجرائد من المعاملات ،والمعاملات جعل الشارع الأصل فيها الإباحة ، وإنما نظمها بما يحقق للناس مصالحهم ، ويدفع عنهم الضرر ،ولو رأوا فيه نفعا لهم ،فإن الله تعالى أعلم بما يصلح عباده .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع. وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأمورًا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟.
ويقول الدكتور القرضاوي نقلا عن الإمام ابن تيمية :
البيع، والهبة، والإجارة، وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم – كالأكل والشرب واللباس – فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرّمت منها ما فيه فساد وأوجبت مالا بد منه وكرهت مالا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.
وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاءون، ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة – وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروهًا – وما لم تحد الشريعة في ذلك حدًا، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي). ا.هـ
وعلى هذا ،فالأصل في بيع الجرائد والمجلات أنه مباح شرعا ،إلا إذا دخل عليه شيء يكون استثناء من الأصل ،ومن ذلك أن تكون المجلات تحمل فكرا ساما يهدم الإسلام ،أو تعمل على تخريب العقول ، أو التي تشوه صورة الإسلام ،أو تقلب الحق باطلا والباطل حقا ،وذلك استنادا إلى قاعدة حفظ العقل، وهي قاعدة من القواعد الكلية الخمسة من حفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال.
وحفظ العقل لا يتوقف على ما يخامر العقل من شراب المسكر، وإنما يدخل فيه كل ما أضر بالعقل ،سواء من ناحية الطعام أو الشراب أو القراءة أو التفكير .
فالمجلات الجنسية ، التي ترى فيها صور النساء شبه عاريات ،أو تكاد تكون عاريات ، والمجلات التي تحارب الإسلام ، والمجلات التي تدعو إلى الرذيلة وانتشار الجرائم وما شابهها ،لا يجوز بيعها ولا شراؤها،وهذا استنثاء من الأصل الذي هو حل البيع والشراء للجرائد والمجلات.
ويستند تحريم المجلات الجنسية والتي تدعو للرذيلة وانتشار الجريمة إلى رفع الضرر ومحاربة الرذائل وهو واحد من أهداف رسالة الإسلام .
يقول تعالى عن رسوله ﷺ في أوصافه الموجودة في الكتب السابقة :( الَّذِينَ يَتَّبِعُون الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). (الأعراف: 157).
وقد لا يرى الإنسان أن في مثل هذه المجلات ضررا ،وأنها نوع من الثقافة، والحق أن هذا نوع من التلبيس وتزييف الحقائق ،فلا يشك عاقل أن المجلات الجنسية والتي تدعو إلى نشر الجريمة بها ضرر لا ينكر ،فكل صاحب عين يراه ،وكل صاحب عقل يعلمه، وكل صاحب قلب يشعره ويحسه .
وقد جاء النهي عن نشر الفاحشة والرذيلة في قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
وقد أخبر الرسول ﷺ أن من أهم وظائف الإسلام هو السمو بالروح الإنساني إلى درجة الطهارة والنقاء والتحلي بالأخلاق الفاضلة،فقد أخرج ابن سعد والبخاري في الأدب والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال :( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق .)(وفي رواية: …لأتمم مكارم الأخلاق) .
وما أحسن ما عبر عنه الإمام ابن القيم حين جعل مقصد الشريعة مصلحة العباد ،وجلب النفع لهم ،ودفع الضر عنهم ،فإن كان الأمر فيه ضر أو مفسدة ،فليس من الشريعة ،وهو محرم .
يقول الإمام ابن القيم :
(إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والميعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل .)
والخلاصة أن بيع الجرائد والمجلات الأصل فيه أنه مباح شرعا ،لأنه نوع من التعامل، والأصل في التعامل الحل، ولكن ينقلب الحكم من الحل إلى الحرمة إن اتخذت الجرائد والمجلات وسيلة لنشر الرذيلة والجنس وكل ما هو فاسد وضار بالعقل ، ويخرج من هذا ما كان فيه نشر صور ليست إباحية ولا جنسية ، فإن كان نشر صور المتبرجات حرام ، ولكن لا يمكن القول بحرمة البيع والشراء ،لأن هذا ليس مقصودا لذاته، كنشر خبر عن امرأة حدث لها حادث قد يكون هاما ، أو ما شابه ذلك .
والله أعلم .