هناك مُسكرات حديثة متخذة من الشعير مثل البيرة والوِيسكِي، أو الحبوب التي تَحتوي على الكَربوهيدرات كالفوديكَا، أو مِن العسل كالروم، أو من عصائر الفاكهة غير العِنب كالشمبانيا ، وغير ذلك ؟ والبعض ينسب إلى المذهب الحنفيِّ من أن المُسكِر المُتَّخَذَ من غير عصير العنب حلالٌ.
الحكم الشرعي للمسكرات الحديثة:
فالإسلام حرم كل ما هو مسكر أياً كان اسمه ، وأياً كان مصدره ، حفاظاً على العقل الذي ميز الله به الإنسان على سائر الحيوانات وكرمه به ، وفي الحديث الصحيح : ( كلُّ مُسكرٍ خمرٌ ، وكلُّ مُسكرٍ حرامٌ ) وقد ورد في الأحاديث الصحيحة كذلك أن أناسا من هذه الأمة يستحلون الخمر قبل قيام الساعة يسمونها بغير اسمها .
ما الدليل على تحريم المسكرات:
يقول الأستاذ الدكتور / نصر فريد واصل ، مفتي مصر السابق :
لا خلافَ بين العلماء في تحريم كل مُسكرٍ أيًّا كانت تَسميته، وأياً كان أصله عِنبًا أو عسَلًا أو حِنطةً أو شعيرًا أو ذُرةً أو تمرًا أو فاكهةً أو غير ذلك، لمَا يلي:
أولًا: النصوص الشرعية الصحيحة القاضية بتَحريم كل مُسكر:
1 ـ فقد رَوى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: “كلُّ مُسكرٍ خمرٌ، وكلُّ مُسكرٍ حرامٌ.
2 ـ ورَوى الإمام أحمد وغيره عن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله ﷺ: “إنَّ مِن الحِنطةِ خمرًا ومِن الزَّبيبِ خمرًا ومِن العَسلِ خَمرًا”.
3 ـ ورَوى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ﷺ: “كلُّ مُسكرٍ حرامٌ، وما أسكرَ الفَرَْقُ ـ بتسكين الراء وفتحها ـ منهُ فمِلْءُ الكفِّ منه حرامٌ”. والفرق : أحد المكاييل ، وهو وعاء كبير .
ثانيًا: ولأن المعنى الذي من أجله حُرِّمتِ الخمر بقوله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إنَّما الخمرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَملِ الشيطانِ فاجْتَنِبُوهُ لعلَّكمْ تُفْلِحونَ) موجود في هذه الأشْربة المُسكِرة ، ويؤيد ذلك :
1 ـ فقد رُوي أن عمر خطَب على مِنبرِ رسول الله ـ ﷺ ـ فقال: إنه نَزَلَ تحريمُ الخمر، وهي من خمسة أشياء: العِنب والتمْر والحنْطة ( القمح ) والشعير والعسَل، والخمْرُ ما خامَرَ العقل.
فكل ما خامَرَ العقل وستَره حرامٌ بنَصِّ كتاب الله ـ عز وجل ـ وسُنة رَسوله ﷺ.
2 ـ ورَوى البخاريُّ في صحيحه أن أنَسًا قال: حُرِّمتِ الخمرُ يومَ حُرمت وما بالمَدينة خمرُ الأعناب إلا قليل، وعامَّةُ خَمرها من البُسْرِ (ى نوع من التمر) والتمْرِ.
ولهذا تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن اللهَ لم يُحرِّمِ الخمرَ لاسْمِها وإنما حرَّمها لعاقبتِها، فكلُّ شرابٍ يكونُ عاقبتُه كعاقبة الخمر فهو حرام لتحريمِ الخمر.
ويقول الألوسي: وعِندي أن الحقَّ الذي لا يَنبغي العُدولُ عنه أن الشرابَ المُتَّخَذَ ممَّا عَدا العِنب ـ كيف كان، وبأَيِّ اسمٍ سُمِّيَ به، متى كان، بحيث يُسكر مَن لم يَتعوَّدْهُ ـ حرامٌ، وقليلُه ككثيرِه ويُحدُّ شاربُه ويَقع طلاقُه.
رأي الفقهاء عامة وفقهاء المذهب الحنفي خاصة في المسكرات الحديثة:
1 ـ يقول صاحب المبْسوط ( السرخسي ، من الحنفية ) : ” النَّبِيذُ إذا شُرب منه فوق ما يُجزئه حتى سَكِرَ يُحدُّ، كشُرب الخمر تمامًا، لمَا بيَّنَّا أن السُّكْرَ مِن النبيذِ مُوجبٌ للحدِّ كشُربِ الخمر”.
2 ـ ويقول صاحب الهداية ( الهمام بن الكمال ، من الحنفية ): “ومَن سكِرَ مِن النَّبيذ حُدَّ؛ لمَا رُويَ أن عمرَ أقام الحدَّ على أعرابيٍّ سَكِرَ من النَّبيذ.
وعلَّق صاحب شرح فتْح القدير( من علماء الحنفية أيضا ) على هذا القول فقال: “فالحدُّ إنما يَتعلَّق في غير الخمر مِن الأنْبذة بالسُّكر، وفي الخمر بشُرب قَطْرة “. كما علَّق صاحب “العِناية” على قوْل صاحب الهِداية “ولا يُحدُّ السكرانُ حتى يُعلمَ أنه سَكِرَ مِن النبيذ وشَرِبَهُ طوْعًا ” فقال: ” استدلَّ الإمامُ المَحبوبيّ على حُرمة الأشربة المُتخَذة من الحُبوب كالحنطة والشعير والذرة والعسل وغيرها، وقال: “السُّكر من هذه الأشربة حرامٌ بالإجماع”.
ويقول صاحب تَنوير الأبصار( من علماء الحنفية أيضا ):
“يُحدُّ مُسلمٌ ناطقٌ مُكلَّفٌ بشُرب الخمر ولو قَطْرةً بلا قيدٍ مُسكرٍ، أو مُسكر من نَبيذٍ مَا، طوعًا عالِمًا بالحُرمة حقيقةً أو حُكمًا”.
ويقول صاحب ردِّ المحتار ( من علماء الحنفية أيضا ) :
“إذا شرِبَ أيَّ نَبيذٍ حُدَّ، وهذا يُفيد أن الحدَّ واجبٌ للسُّكر مِن الشراب المُسكر، والشراب المُوجب للحدِّ هو شراب لا يُوصف بالإباحة ولا بمَشروعية شُربه طالَمَا كان مَوصوفًا بأنه شرابٌ مُسكرٌ”.
ويقول صاحب نتائج الأفكار( من علماء الحنفية أيضا ) :
فإن نَبيذ العَسل والتين ونَبيذ الحِنطة والشعير وإنْ كانَ حلالًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يَصلْ إلى مَرتبة الإسْكار، وكان مِن غيرِ لَهْوٍ وطَرَبٍ، إلا أنه إذا أسكرَ كثيرُه صارَ حرامًا بالإجماع ويَثبُتُ به الحدُّ على القول الأصحِّ.
ويقول في موضع آخر في الكتاب نفسه: “والسُّكر مِن كلِّ شرابٍ حرامٌ بالاتِّفاق”
تلك هي نصوص فُقهاء المذهب الحنفيِّ التي أجمَعَتْ على تحريم كل مُسكرٍ دون تفريق بين ما يُتَّخذُ مِن العِنَبِ أو مِن غَيره.
بل ذهَبَتْ إلى ما هو أبعدُ من ذلك، فقَررَّتْ أن السُّكر حرامٌ في كل الأديان، فقد وَرَدَ في كتاب نتائج الأفكار (8/ 151) ردًّا على ادِّعاءِ حِلِّهِ للأمَم السابقة: ” فإن قيلَ: ما بالُه حَلَّ للأمم السابقة مع احتياجِهم إلى العَقل؟ أُجيبَ بأن السُّكرَ حرامٌ في كل الأديان”.
من هذه النصوص وغيرها يَتَّضِحُ أن فقهاء المذهب الحنفيِّ جميعًا شأنُهم شأن غيرهم مِن سائر فقهاء المذاهب الأخرى، مُجمِعون على تَحريم كل مُسكرٍ مهما كانت تسميتُه، وأن ما نُسبَ إلى المذهب الحنفيِّ من أن المُسكِر المُتَّخَذَ من غير عصير العنب حلالٌ يُخالف نصوص الشريعة وما اتَّفَقَ عليه الفقهاء جميعًا ونَطقت به كُتبُهم مِن تحريم كل مُسكر.
والذي نُشهد اللهَ عليه وتَطمئن النفسُ إلى القول به ويَتفق مع المَدارك السليمة والفِطرة الصحيحة والعُقول المُستقيمة، تَبرئةُ إمام المذهب الحنفيِّ وأصحابه وأتباعه من القول بإباحته للمُسكر المُتخَذِ من غير عصير العنب وعدم تَحريمها؛ لأن نصوص كُتبهم شاهدةٌ بذلك.
فإن وُجد غيرُ ما صرَّحوا به أو فَهم البعضُ غيرَ ما نَطقوا به فهي بلا شك نِسبةٌ غير صحيحةٍ فيها من التحريف والتدليس ما لا يَخفَى على مَن به أثارةٌ مِن علْمٍ.
فلْيَحذرِ المُخالفون عن أمر الله أن تُصيبَهم فِتنةٌ أو يُصيبَهم عذابٌ أليم.