يتسائل البعض هل رفض الصحابة رضي الله عنهم تنفيذ أمرالنبي ﷺ في يوم الخميس وهو في مرض الموت:
نجمع شتات هذه المسألة في النقاط التالية:-
أولا:- حينما أمر الرسول ﷺ أصحابه بالخروج لم يكن ذلك بسبب غضبه عليهم من عدم تنفيذ الأمر، ولكن سبب ذلك أنهم تنازعوا، واختلفوا عنده، وقد ظهر ذلك واضحا جليا في الحديث؛ إذ جاء فيه(وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ).
ثانيا: – أين ما يدل على أن النبي ﷺ غضب من فعل سيدنا عمر؟ بل الذي في الحديث أنه استحسن فعل عمر، والدليل على ذلك أنه لم يصمم على الكتابة بل رجع عنها، ولو أن الأمر كان واجبا حتما لأنفذه رغما عن الجميع وإلا فإنه ﷺ يكون قد كتم شيئا مما أمر بتبليغه، وحاشاه ﷺ أن يصنع ذلك.
ثالثا:- إن جمهور أهل العلم يذهبون إلى أن الأمر في القرآن أو السنة يفيد الوجوب ما لم يصرفه عن الوجوب صارف، وهنا سؤال: كيف يعرف المسلمون هذا الصارف؟ لا شك أن ذلك من خلال بعض القرائن اللفظية التي تؤخذ من طرق الحديث، فإذا كانت القرائن اللفظية نستطيع أن توصلنا إلى مثل ذلك، أفلا توصل القرائن العملية التي رآها الصحابة من الرسول ﷺ إلى أن يدركوا أن هذا الأمر ليس للوجوب.
رابعا: هل هذه هي المرة الأولى التي يراجع الرسول ﷺ فيها الصحابة؟ فأين مراجعتهم له حينما نهاهم عن الجلوس في الطريق؟ ولماذا أجابهم إلى ما أرادوا؟ وأين مراجعتهم له في استثناء اعتضاد الإذخر من شجر مكة؟.
خامسا: مالذي أنكره الرسول على صحابته ساعة فعلوا ذلك؟ إنه أنكر التنازع فقط، ولم يزد على ذلك، فإذا كان قد غضب على عمر ومن معه لامتناعهم عن تنفيذ الأمر أفلا يكون هذا أولى بالإنكار من مجرد التنازع الذي هو على كل الأحوال أقل بكثير من تآمر الصحابة على منع الرسول ﷺ من إبلاغ الرسالة كما يتصور البعض؟
سادسا: لو كان الرسول ﷺ فقد الثقة في طاعة الصحابة فكيف أمرهم بما أمرهم به بعد ذلك؟ وما فائدة ذلك مع انعدام الثقة؟ وإذا كان الصحابة قد تصوروا أن الرسول ﷺ ما عاد يعي ما يقول فلماذا أنفذوا ما وصاهم به في هذه الحالة؟
سابعا: إن الذي يجب أن نفهمه- كما هو واضح من النصوص- أن سيدنا عمر بن الخطاب لم يرفض السنة، ولكنه رفض تدوين السنة، أو تدوين جزء من السنة حتى لا تختلط السنة بالقرآن، هذا هو الذي رفضه عمر التدوين فقط، ومعروف أن عمر بن الخطاب كان مهتما بعدم الخلط بين القرآن والسنة حتى إنه كان ينهى عن الاشتغال بالسنة عن القرآن يوم انصرف الناس إلى السنة، ولنا أن نتصور لو أن رسول الله ﷺ كان قد دون ما دونه أفكان يؤمن عدم اختلاط ما دونه بالقرآن؟.
وهذا نص الحديث كما رواه الإمام البخاري:- حدثنا قتيبة: حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس:
يوم الخميس، وما يوم الخميس؟! اشتد برسول الله ﷺ وجعه، فقال:(ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا). فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما شأنه، أهجر، استفهموه؟ فذهبوا يردون عليه، فقال: (دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه). وأوصاهم بثلاث، قال: (أخرجوا المشركين من الجزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم). وسكت عن الثالثة، أو قال: فنسيتها.
وهذا ماقاله الإمام النووي في شرح هذا الحديث:-
اعلم أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشَّرعيَّة في حال صحَّته، وحال مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصوماً من الأمراض، والأسقام العارضة للأجسام ونحوها، ممَّا لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سُحر – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتَّى صار يُخيل إليه أنَّه فعل الشَّيء، ولم يكن فعله، ولم يصدر منه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام الَّتي قرَّرها.
وقد اختلف العلماء في الكتاب الَّذي همَّ النَّبيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- به.
فقيل: أراد أن ينصَّ على الخلافة في إنسان معيَّن، لئلاَّ يقع نزاع وفتن.
وقيل: أراد كتاباً يبيِّن فيه مهمَّات الأحكام ملخَّصة، ليرتفع النِّزاع فيها، ويحصل الاتِّفاق على المنصوص عليه.
وكان النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- همَّ بالكتاب حين ظهر له أنَّه مصلحة، أو أُوحي إليه بذلك، ثمَّ ظهر أنَّ المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك، ونسخ ذلك الأمر الأوَّل.
وأمَّا كلام عمر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: فقد اتَّفق العلماء المتكلِّمون في شرح الحديث على أنَّه من دلائل فقه عمر وفضائله، ودقيق نظره، لأنَّه خشي أن يكتب – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أموراً بما عجزوا عنها، واستحقُّوا العقوبة عليها، لأنَّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب اللَّه، لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فعلم أنَّ الله أكمل دينه، فأمن الضَّلال على الأمَّة، وأراد التَّرفيه على رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان عمر أفقه من ابن عبَّاس، وموافقه.
وقول عمر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: حسبنا كتاب اللَّه، ردٌّ على من نازعه، لا على أمر النَّبيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقيُّ في أواخر كتابه (دلائل النُّبوَّة):
إنَّما قصد عمر التَّخفيف على رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين غلبه الوجع، ولو كان مراده – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم، ولا لغيره لقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67] كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وغير ذلك ممَّا ذكره في الحديث.
قال البيهقيُّ: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله، أنَّه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثمَّ ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله ذلك. (ج/ص: 11/91)
كما همَّ بالكتاب في أوَّل مرضه، حين قال: “وَارَأْسَاه”.
ثمَّ ترك الكتاب وقال: “يأبى اللهُ وَالمُؤْمِنُوْن إِلاَّ أَبَا بَكْر” ثمَّ نبَّه أمَّته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إيَّاه في الصَّلاة.
قال البيهقيُّ: وإن كان المراد بيان أحكام الدِّين، ورفع الخلاف فيها، فقد علم عمر حصول ذلك لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وعلم أنَّه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلاَّ وفي الكتاب، أو السُّنَّة بيانها، نصَّاً أو دلالة، وفي تكلُّف النَّبيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مرضه مع شدَّة وجعه، كتابة ذلك مشقَّة، ورأى عمر الاقتصار على ما سبق بيانه إيَّاه نصَّاً أو دلالة، تخفيفاً عليه، ولئلاَّ ينسدَّ باب الاجتهاد على أهل العلم، والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول.
وقد كان سبق قوله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِم فَأَصَاب فَلَهُ أَجْرَان، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر”.
وهذا دليل على أنَّه وكَّل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء، وجعل لهم الأجر على الاجتهاد، فرأى عمر الصَّواب تركهم على هذه الجملة، لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد، مع التَّخفيف عن النَّبيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وفي تركه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإنكار على عمر دليل على استصوابه.
قال الخطَّابيُّ: ولا يجوز أن يُحمل قول عمر على أنَّه توهَّم الغلط على رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو ظنَّ به غير ذلك ممَّا لا يليق به بحال، لكنَّه لما رأى ما غلب على رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوجع، وقرب الوفاة، مع ما اعتراه من الكرب، خاف أن يكون ذلك القول ممَّا يقوله المريض، ممَّا لا عزيمة له فيه، فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدِّين.
وقد كان أصحابه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف، وفي كتاب الصُّلح بينه وبين قريش، فأمَّا إذا أمر بالشَّيء أمر عزيمة، فلا يراجعه فيه أحد منهم.
قال: وأكثر العلماء على أنَّه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه، وقد أجمعوا كلَّهم على أنَّه لا يقرُّ عليه.
قال: ومعلوم أنَّه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كان الله قد رفع درجته فوق الخلق كلِّهم، فلم ينزِّهه عن سمات الحدث والعوارض البشريَّة، وقد سهى في الصَّلاة، فلا ينكر أن يظنَّ به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه، فيتوقَّف في مثل هذا الحال حتَّى تتبيَّن حقيقته، فلهذه المعاني وشبهها راجعه عمر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
وقال المازريُّ: إن قيل: كيف جاز للصَّحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع قوله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “اِئْتُوْنِيْ أَكْتُبُ” وكيف عصوه في أمره؟
فالجواب: أنَّه لا خلاف أنَّ الأوامر تقارنها قرائن تنقلها من النَّدب إلى الوجوب، عند من قال: أصلها للنَّدب، ومن الوجوب إلى النَّدب عند من قال: أصلها للوجوب، وتنقل القرائن أيضاً: صيغة افعل إلى الإباحة، وإلى التَّخيير، وإلى غير ذلك من ضروب المعاني، فلعلَّه ظهر منه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القرائن ما دلَّ على أنَّه لم يوجب عليهم بل جعله إلى اختيارهم، فاختلف اختيارهم بحسب اجتهادهم، وهو دليل على رجوعهم إلى الاجتهاد في الشَّرعيَّات.
فأدَّى عمر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اجتهاده إلى الامتناع من هذا، ولعلَّه اعتقد أنَّ ذلك صدر منه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غير قصد جازم، وهو المراد بقولهم: هجر، وبقول عمر: غلب عليه الوجع، وما قارنه من القرائن الدَّالة على ذلك، على نحو ما يعهدونه من أصوله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تبليغ الشَّريعة، وأنَّه يجري مجرى غيره من طرق التَّبليغ المعتادة منه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فظهر ذلك لعمر دون غيره فخالفوه، ولعلَّ عمر خاف أنَّ المنافقين قد يتطرَّقون إلى القدح فيما اشتهر من قواعد الإسلام، وبلغه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّاس بكتاب يكتب في خلوة، وآحاد ويضيفون إليه شيئاً، لشبَّهوا به على الَّذين في قلوبهم مرض، ولهذا قال: عندكم القرآن، حسبنا كتاب اللَّه. انتهى.
و قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:-
سبب بكاء عبدالله بن عباس:-
وبكاء ابن عباس يحتمل لكونه تذكر وفاة رسول الله فتجدد له الحزن عليه، ويحتمل أن يكون انضاف إلى ذلك ما فات في معتقده من الخير الذي كان يحصل لو كتب ذلك الكتاب، ولهذا أطلق في الرواية الثانية أن ذلك رزية، ثم بالغ فيها فقال: كل الرزية.
معنى الهجر والمراد به:-
والهجر بالضم ثم السكون الهذيان والمراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته.
ووقوع ذلك من النبي ﷺ مستحيل لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى) ولقوله ﷺ: ” إني لا أقول في الغضب والرضا إلا حقا “.
سبب إطلاق بعض الصحابة لهذا اللفظ:-
إذا عرف ذلك فإنما قاله من قاله منكرا على من يوقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة فكأنه قال: كيف تتوقف أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ امتثل أمره وأحضره ما طلب فإنه لا يقول إلا الحق، قال: هذا أحسن الأجوبة، قال: ويحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه مع كونهم من كبار الصحابة، ولو أنكروه عليه لنقل، ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيرا منهم عند موته.
وقال غيره: ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدة وجعه.
وقيل: قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه ويفضي في العادة إلى ما ذكر، ويحتمل أن يكون قوله أهجر فعلا ماضيا من الهجر بفتح الهاء وسكون الجيم والمفعول محذوف أي الحياة، وذكره بلفظ الماضي مبالغة لما رأى من علامات الموت.
ويظهر لنا ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله لجواز وقوع ذلك، ولهذا وقع في الرواية الثانية ” فقال بعضهم إنه قد غلبه الوجع “.
كيف ساغ للصحابة التباطؤ في تنفيذ الأمر؟
قال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه ﷺ قال ذلك عن غير قصد جازم، وعزمه ﷺ كان إما بالوحي وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضا، وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد في الشرعيات.
سبب موقف سيدنا عمر بن الخطاب:-
وقال النووي: اتفق قول العلماء على أن قول عمر ” حسبنا كتاب الله ” من قوة فقهه ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا ينسد باب الاجتهاد على العلماء.
وفي تركه ﷺ الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه رأيه، وأشار بقوله: ” حسبنا كتاب الله ” إلى قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) .
ويحتمل أن يكون قصد التخفيف عن رسول الله ﷺ لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب، وقامت عنده قرينة بأن الذي أراد كتابته ليس مما لا يستغنون عنه، إذ لو كان من هذا القبيل لم يتركه ﷺ لأجل اختلافهم، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس إن الرزية إلخ، لأن عمر كان أفقه منه قطعا.
وقال الخطابي: لم يتوهم عمر الغلط فيما كان النبي ﷺ يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب وحضور الموت خشي أن يجد المنافقون سبيلا إلى الطعن فيما يكتبه وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق فكان ذلك سبب توقف عمر، لا أنه تعمد مخالفة قول النبي ﷺ ولا جواز وقوع الغلط عليه حاشا وكلا.
بين موقف عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عباس:-
وأما قول ابن بطال: عمر أفقه من ابن عباس حيث اكتفى بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به، وتعقب بأن إطلاق ذلك مع ما تقدم ليس بجيد؛ فإن قول عمر: ” حسبنا كتاب الله ” لم يرد أنه يكتفي به عن بيان السنة، بل لما قام عنده من القرينة، وخشي من الذي يترتب على كتابة الكتاب مما تقدمت الإشارة إليه، فرأى أن الاعتماد على القرآن لا يترتب عليه شيء مما حشيه، وأما ابن عباس فلا يقال في حقه لم يكتف بالقرآن مع كونه حبر القرآن وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه أسف على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه لكونه أولى من الاستنباط.