من رحمة الله تعالى بالشهداء أنه يغفر لهم كل الذنوب إلا ما تعلق بالحقوق المالية، كالدين والغصب ونحو هذا، أما الفرائض فإن النصوص الشرعية الواردة تدل على أن الله تعالى يغفر للشهيد تقصيره في أداء الفرائض، ما لم يكن جاحدا لها، ولا مستهزئا بها، ويستحب لمن أقدم على الشهادة ـ وهي أعلى مراتب التضحية والبذل ـ أن يتخلص من الذنوب كلها، ويحسن توبته حتى ترتفع مكانته.
يقول فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:
الذنوب التي ارتكبها الشهيد قبل أن يستشهد قسمان :
1-  ذنوب تتعلق بحقوق مالية، كغصب أو سرقة أو ديون وودائع ونحوها، فهذه لا تكفرها الشهادة، لأنها من حقوق العباد .
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين .
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ” ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” كيف قلت ؟ ” قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” نعم إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين، فإن جبرائيل قال لي ذلك ” . رواه مسلم وغيره .

2- وأما الذنوب التي بين العبد وربه كشرب الخمر وترك الصلاة والصيام ونحوها من غير جحود ولا استخفاف فالنصوص ناطقة بأن الله تعالى يغفرها للشهيد، ويطهره من آثارها بفضله ورحمته . فقد جاء في أكثر من حديث: أن الشهيد يغفر له في أول دفقة من دمه، بل جاء في أكثر من حديث: أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته .

فكل ذنب لم يصل إلى درجة الردة أو النفاق – والعياذ بالله – يدخل في دائرة المغفرة التي أكرم الله بها الشهداء .
ولعل أبلغ ما يوضح ذلك هذا الحديث النبوي الشريف: روى الدارمي عن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” القتلى ثلاثة: مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل ” . قال النبي – صلى الله عليه وسلم – فيه: ” فذلك الشهيد الممتحن ” (أي الذي امتحن الله قلبه للتقوى، وشرح صدره) في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة .

ومؤمن خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – فيه: ممصمصة (أي ممحصة مطهرة مكفرة) محت ذنوبه وخطاياه – إن السيف محاء للخطايا – وأدخل من أي أبواب الجنة شاء .

ومنافق جاهد بنفسه وماله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل . فذلك في النار . إن السيف لا يمحو النفاق. (رواه الدارمي بهذا اللفظ في ” مشكاة المصابيح ” وقال المحدث الشيخ الألباني في تعليقه على أحاديث المشكاة: إسناده صحيح . ورواه بنحو هذا الإمام أحمد بإسناد جيد، والطبراني وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في ” الترغيب والترهيب ” للمنذري في كتاب الجهاد) .
وفي رواية لابن حبان في صحيحه في وصف الصنف الثاني: ” ورجل فرق على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله . . . إلخ ”
ومعنى فرق: أي خائف وجزع .
وليس بعد بيان النبوة بيان . إن السيف محاء للخطايا ومطهرة من دنس الذنوب سواء كانت ترك بعض الواجبات أم فعل بعض المحظورات، ولا حجر على رحمة الله تعالى: إن السيف يمحو الخطايا، ولا يمحو النفاق أبدًا . ولا يطهر من رجس الردة والإلحاد.

ويقول الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله :
لا شك أن التضحية بالنفس في سبيل الله عز وجل هي قمة الأعمال التي يتقرب بها الإنسانُ إلى خالقِه، لأن من ضحّى بحياتِه لوجه ربه يكون قد باع هذه الحياة للعلي الكبير، بثمن جليل هو الرِّضوان ونعيم الجنان، وبسبب هذه التضحية يغفر الله تبارك وتعالى لمن أخلص النية والجهاد في سبيله، ما يكون قد فرط منه من هفوات أو زَلاّت؛ وقد نستطيع أن نفهم هذا من قول الله سبحانه في سورة آل عمران( فالذينَ هاجَرُوا وأُخرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأُوذُوا فِي سَبيلِي، وقاتَلُوا وقُتِلُوا، لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، ولأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ، ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ، واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ) ( الآية 195 ). وتكفير السَّيئات معنى يفيد غفران الذّنوب ومحو الهفوات .

وكذلك يقول الحق جلَّ جلاله في سورة الصف: (يا أيُّها الذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَليمٍ، تُؤمِنونَ بِاللهِ ورَسولِهِ، وتُجاهِدونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنوبَكُمْ، ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ، ومَساكِنَ طَيِّبةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) (الآيات 10 ـ 12 ) .
فذكرت الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب والمعاصي للمجاهد بنفسه وماله، ويدخله نعيم الجنة .
ولقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله قائلاً: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلت في سبيل الله، أتكفِّر عنِّي خطاياي ؟. فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: نعم، إن قتلت وأنت صابر محتسِب، مقبل غير مدبر”. أي إذا توافر الإقبال على المعركة دون تردُّد، وكان هناك الثبات والصبر، وصدق النية، وابتغاء وجه الله، وجاء الاستشهاد وصاحبه مقبل على أعدائه، غير فار منهم ولا منهزم أمامهم. فهذا الإقبال الصادق المخلص الموقن يكون بفضل الله سببًا لمحو ما كان على المجاهد قبل ذلك من سيئات أو تبعات .

وكذلك قال سيدنا رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ” يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدّين “، وكأن هذا توجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم للمجاهد في سبيل أن يحذَر إبقاء دين عليه، وهو خارج إلى الجهاد في سبيل الله، حتى يكون مقبلاً على ربه بكليّته، وإن لم يستطع ردَّ دينه، فعليه أن يوصِيَ مَن يقوم برده وتأديته لصاحبه .

ولقد روى الترمذي وابن ماجه أن النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قد قال:” للشهيد عند ربه سبْع خِصال : يُغفر له أول دفعة، ويَرى مقعده من الجنّة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار: الياقوتة خير من الدنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشَفَّع في سبعين من أقاربه “.

والسنة النبويّة تعلمنا أن الشهادة مراتب، وأن الشهداء درجات، ولكنهم مشمولون جميعًا بفضل الله وعونه ما داموا قد قصدوا بابه، وأخذوا أسبابه، وتطلبوا بجهادهم واستشهادهم رضاه ورحابه.

يقول الرسولصلى الله عليه وسلم : “الشهداء أربعة:

رجل مؤمن جيّد الإيمان، لقي العدو فصدق الله حتى قُتل، فذلك الذي يرفع الناس أعينهم إليه يوم القيامة هكذا – ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته.

ورجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدو فكأنّما ضرب جلده بشوك طَلْح (وهو شجر شديد الشَّوكِ) من الجُبن، أتاه سهم غَرْب ( أي لا يدري مصدره ) فقتله، فهو في الدرجة الثانية.

ورجل مؤمن خلط عملا صالحًا وآخر سيئًا، لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك في الدرجة الثالثة.

ورجل مؤمن أسرفَ على نفسه، لقِيَ العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك في الدرجة الرابعة “.

هذا ولكن اللائق بالمجاهدين الصادقين أن ينشؤوا نشأة حسنة، وأن يسلكوا في حياتهم سلوكًا قويمًا، وأن يعدوا أنفسهم لحياة الجهاد ونعمة الاستشهاد بالإيمان والطاعة والاستعداد، حتى يُلاقوا ربهم وهم على أسمى ما يستطيعونه من التقوى والطاعة (إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ونَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)( القمر 54، 55 ) .