الزنا بالمحارم من كبائر الذنوب وهو من أقبح الزنا على الإطلاق، وقد اختلف الفقهاء في عقوبته، وجمهور الفقهاء على أن الزاني بإحدى محارمه كالزاني بأجنبية، وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن عقوبته القتل محصنا كان أم غير محصن وماله لبيت مال المسلمين، وهذا الرأي تدعمه الأدلة، وقد رجحه الإمام ابن القيم.
يقول فضيلة الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين- :
الزنا بالمحارم من أفحش الزنا وأقبحه لما فيه من انتهاكٍ لحرمات الله، يقول الله سبحانه وتعالى:( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ) سورة الإسراء الآية 32.
قال الشيخ ابن حجر المكي الهيتمي:[وأعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم.] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/301.
وقد نص أهل العلم على تفاوت إثم الزنا كما هو الحال فيمن يزني بزوجة جاره وكذا من يزني بإحدى محارمه،ويدل عليه ما ورد في الحديث عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه (أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرَّمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال رسول الله ﷺ: لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره. فقال ما تقولون في السرقة ؟ قالوا حرَّمها الله ورسوله فهي حرام قال لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره.) رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/168، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 1/96.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:[يتفاوت إثم الزنا ويعظم جرمه بحسب موارده. فالزنا بذات المحرم أو بذات الزوج أعظم من الزنا بأجنبية أو من لا زوج لها، إذ فيه انتهاك حرمة الزوج، وإفساد فراشه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه، وغير ذلك من أنواع أذاه. فهو أعظم إثماً وجرماً من الزنا بغير ذات البعل والأجنبية. فإن كان زوجها جاراً انضم له سوء الجوار. وإيذاء الجار بأعلى أنواع الأذى، وذلك من أعظم البوائق، فلو كان الجار أخاً أو قريباً من أقاربه انضم له قطيعة الرحم فيتضاعف الإثم.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ). ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأة الجار. فإن كان الجار غائباً في طاعة الله كالعبادة، وطلب العلم، والجهاد، تضاعف الإثم، حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء.
قال رسول الله ﷺ: ( حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم، إلا وُقِفَ له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم ؟ ) – رواه مسلم – أي: ما ظنكم أن يترك له من حسناته؟ قد حكم في أنه يأخذ ما شاء على شدة الحاجة إلى حسنة واحدة، فإن اتفق أن تكون المرأة رحماً له انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها، فإن اتفق أن يكون الزاني محصناً كان الإثم أعظم، فإن كان شيخاً كان أعظم إثماً وعقوبةً، فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام، أو بلد حرام، أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلوات وأوقات الإجابة تضاعف الإثم.] الموسوعة الفقهية الكويتية 24/20.
عقوبة الزنا بالمحارم:
وقد وردت عدة أحاديث في الزنا بالمحارم منها:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (بينما أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي ﷺ إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلاً فضربوا عنقه فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه) رواه أبو داود في باب الرجل يزني بحريمه، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 121/8.
وفي صحيح سنن أبي داود 3/844. وفي رواية أخرى عن البراء رضي الله عنه قال: (لقيت عمي ومعه راية فقلت له أين تريد قال بعثني رسول الله ﷺ إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله) رواه أبو داود، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 18/8، وفي صحيح سنن أبي داود 3/844.
وجاء في رواية ثالثة عن البراء رضي الله عنه قال: (مر بي خالي … وقد عقد له النبي ﷺ لواءً فقلت له أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله ﷺ إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه) رواه أحمد وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 8/20، وفي صحيح سنن ابن ماجة 2/90.
وروي في الحديث أن النبي ﷺ قال:( من وقع على ذات محرم فاقتلوه) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم، وقال: صحيح ولم يخرجاه. ولكن الحديث ضعيف عند المحققين من المحدثين، انظر إرواء الغليل 8/22-23.
وقد أخذ بمقتضى هذه الأحاديث جماعة من أهل العمل فقالوا بقتل من زنى بإحدى محارمه.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[اختلف في الحد فروي عن أحمد أنه يقتل على كل حال، وبهذا قال جابر بن زيد واسحاق وأبو أيوب وابن خيثمة وروى إسماعيل بن سعيد عن أحمد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال: يقتل ويؤخذ ماله إلى بيت المال ] المغني 9/56.
وجمهور الفقهاء على أن الزاني بإحدى محارمه كالزاني بأجنبية.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[والرواية الثانية: حده حد الزاني وبه قال الحسن ومالك والشافعي لعموم الآية والخبر ] المغني9/56.
والقول الأول أرجح من حيث الدليل.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي بعد أن ذكر الأحاديث السابقة:[وهذه الأحاديث أخص مما ورد في الزنا فتُقدم] المغني 9/56.
وقال العلامة ابن القيم: [ فصلٌ في حكمه ﷺ فيمن تزوج امرأة أبيه ]
روى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما: عن البراء رضي الله عنه قال: لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية فقال أرسلني رسول الله ﷺ إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله وذكر ابن أبي خيثمة في ” تاريخه ” من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ بعثه إلى رجل أعرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله. قال يحيى بن معين : هذا حديث صحيح.
وفي ” سنن ابن ماجه ” من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: “من وقع على ذات محرم فاقتلوه. وذكر الجوزجاني أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها فقال احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله ﷺ فسألوا عبد الله بن أبي مطرف رضي الله عنه فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: “من تخطى حرم المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف”.
وقد نص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال يقتل ويدخل ماله في بيت المال، وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله ﷺ.
وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة: حده حد الزاني، ثم قال أبو حنيفة إن وطئها بعقد عزر ولا حد عليه وحكم رسول الله ﷺ وقضاؤه أحق وأولى.] زاد المعاد5/14-16.
وقد اختار هذا القول العلامة الشيخ محمد العثيمين كما في الشرح الممتع 11/121، ورجحه أيضاً الدكتور عبد الكريم زيدان كما في المفصل في أحكام المرأة 5/134.
إذا تقرر هذا فإن تطبيق العقوبات الشرعية من حق الإمام والدولة المسلمة، وقد غاب في زماننا تطبيق الحدود، فإن الواجب على من زنى بإحدى محارمه أن يتوب إلى الله تعالى توبة صادقة يقول الله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } سورة التحريم الآية 8 .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} سورة الفرقان الآيات 68-70.
وقال الله تعالى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } سورة الزمر الآيتان 53 – 54.
وخلاصة الأمر أن الزنا بالمحارم من كبائر الذنوب وهو من أقبح الزنا على الإطلاق، وعقوبة من يفعل ذلك القتل مطلقاً سواء أكان محصناً أو غير محصن، ونظراً لعدم تطبيق الحدود حالياً فالواجب على من وقع في ذلك أن يستتر وعليه التوبة الصادقة بشروطها، وهذه هي كفارة ذنبه الفظيع.