يقول الشيخ أحمد الشرباصي-رحمه الله تعالى- في المؤاخاة بالتفصيل:

-بعد أن هاجر الرسول ـ إلى مكة آخى بين المهاجرين والأنصار، فتآخوا في الله أخوينِ أخوينِ، وصار لهذا الإخاء حُكم إخاء الدم والنسَب، بحيث لو مات أحد الأخوين وَرِثَهُ الآخر، كما يرِثُ الشقيقُ الشقيقَ، وقد ذكر الإمام ابن القيم أن هذه المؤاخاة كانت في دار أنس بن مالك، وقد ظلت تَبِعَاتُ هذه المؤاخاة سارية إلى حين غزوة بدر، فلمَّا أنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ قوله: ( وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعضُهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كتابٍ اللهِ ). ( الأنفال: 75 ). رجع الميراث إلى أساس القرابة النسبية، وكان مستوى المهاجرين قد ارتفع واعتدل.

-وكان من نتائج هذه المؤاخاة أن أحسن الأنصار استقبال المهاجرين الذين أُخرجوا مِن ديارهم وأموالهم بغير حقٍّ إلا أن يقولوا ربُّنا الله، وكان فريق من الأنصار يَعرضون على إخوانهم المهاجرين أن يُشاطروهم أموالهم، ويُقاسموهم ما يَملِكون، وفي الوقت نفسه كان المهاجرون لا يتَّكلون على هذا، بل كانوا يعملون في التجارة أو الزراعة أو غيرهما، وكانوا يُنافسون إخْوَتَهمْ الأنصار في العمل والإنتاج والكسب، حتى قيل عن بعضهم إنه يُحيل بالتجارة رمال الصحراء ذهبًا.

-وقد رَوى الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره هذا الحديث: قال رسول الله ـ ـ للأنصار: “إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم”. فقالوا: أموالنا بينهم قطائع، فقال رسول الله ـ ـ: أو غير ذلك؟ قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: هم قومٌ لا يعرفون العمل (أي لا تتهيأ لهم فرصته، ولم يتدرَّبوا عليه بعد) فتكفوهم وتُقاسموهم التمر. قالوا: نعم يا رسول اللَّه.

-وكان هناك فريق من المسلمين اشتدت بهم الحاجة والعوَز، فخَصَّص الرسول لهم مكان “الصُّفَّة”، وهو مكان مَسقوف بجانبٍ من المسجد النبوي، وأجرَى عليهم رزقهم من مال المسلمين من المهاجرين والأنصار الذين آتاهم الله رزقًا حَسنًا واسعًا.

-كما نستطيع أن نقول إن هذه المؤاخاة التي أجراها الرسول بين أتباعه كانت خطوة رائعة قصد بها الرسول إلى تحقيق الوحدة بين المهاجرين والأنصار، وإلى إزالة الشحناء التي كانت موجودة بين الأوس والخزرج من أهل المدينة.

كما نستطيع أن نقول: إن هذه المؤاخاة كانت ـ أيضًا ـ خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، والتقارُب بين أفراد الجماعة المؤمنة، وإيجاد نوع من التعادل في الأحوال الاقتصادية المتعلِّقة بمستوى المعيشة المُرتبط بأمورٍ منها العمل والتملك وأسلوب التوزيع.

-والرسول ـ ـ لا يعمل عملاً يتعلق بالدعوة ومبادئها إلا عن طريق الوحي؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول في حق نَبيِّه: (وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى* إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَي ). (النجم: 3 ـ 4) ولا يُشترط أن الوحي أتى النبيَّ نصًّا قرآنيًا، فجبريل سفير الرحمن كان يغدو ويروح بين الله ونبيه ليُبلغه أوامره وأحكامه، وهناك أمور كثيرة عبَّر عنها النبي أو تصرَّف فيها بمُقتضٍ هذا الوحي، وفي بعض الأحيان يأتي القرآن الكريم ليُصوِّر ما حدث، وما كان لله فيه من إرادة أو فضل.

-وفي موقف المؤاخاة يقول القرآن عن المهاجرين ومُعاونتهم للأنصار وتقديرهم لاخوتهم: (الذينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إليهمْ، ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا، ويُؤْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ ولوْ كانَ بهمْ خَصَاصَةً ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ؛ والذينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لنَا ولإِخْوَانِنَا الذينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ، ولاَ تَجْعَلْ في قُلوبِنَا غِلاًّ للذِينَ آمَنُوا ربَّنَا إنَّكَ رءوفٌ رَحيمٌ ). ( الحشر: 9 ـ10 ).
-وسواء أكان تصرُّف النبي ـ ـ بنصٍّ سابق أو بوحْي مستور، فإن الذي نؤمن به أن النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ معصوم من الخطأ في حق دعوته وحق أمته؛ لأنه الأمين على وحْي ربه، المُبلِّغ لرسالته، الناشر لدعوته بين العالمين.