من المعلوم لنا جميعًا أن الإسلام حذر من الجدل، ولكننا نرى بعضَ الآيات القرآنية تأمر بالجدل مثل: (وجادِلْهم بالتي هي أحسنُ) وبعضَ الآيات الأخرى تحذر من الجدل مثل قوله تعالى: (ما يُجادِلُ في آياتِ اللهِ إلا الذين كفروا فلا يَغْرُرْكَ تقلُّبُهم في البلادِ) فهل من الممكن أن نوفق بين مثل هذه الآيات أم لا؟
اتفق الفقهاء على أن الجدل نوعان:
النوع الأول: الجدل المحمود
: وهو ما يُقصَد به تأييدُ الحق أو إبطالُ الباطل أو ما أفضى إلى ذلك بطريق صحيح. وهذا هو ما أمر الله به عز وجل في القرآن الكريم، قال تعالى: (ادْعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادِلْهم بالتي هي أحسنُ) والمجادلة بالحق من سَنَن الأنبياء والرسل مع قومهم عند دعوتهم إلى الله عز وجل؛ لأن الأنبياء لو عاملوا أممهم بغلظة لنفَروا منهم وانصرفت قلوبهم عن التدبر لما قالوا وما جاءوا به من البينات.

النوع الثاني: الجدل المذموم: فهو كل جدل بالباطل، أو يستهدف الباطل، أو يفضي إليه، أو كان القصد منه التعاليَ على الخَصم والغلبةَ عليه. فهذا النوع مذموم شرعًا.
وعلى ذلك فالنصوص الشرعية الآمرة بالجدل محمولة على النوع الأول.

وأما النصوص الشرعية التي ذمت الجدل فمحمولة على النوع الثاني.

ومعنى هذا أن النصوص التي تأمر بالجدل تُحمَلُ على الجدل المحمود، أما النصوص التي تُحذِّر من الجدل فإنها تُحمَلُ على الجدل المذموم.

وقال الإمام الشوكاني في تفسير قول الله تعالى: (ما يُجادِلُ في آياتِ اللهِ إلا الذين كفروا) أي ما يخاصم في رفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا، والمرادُ الجدالُ بالباطلِ والقصدُ دَحْضَ الحقِّ.

فأما الجدال لاستيضاح الحق ورفع اللبس وتمييز الراجح من المرجوح ودفع ما يتعلق به المبطِلون ـ فهو من أعظم ما يَتقرَّب به المتقربون، ومن ذلك ما جاء في قوله الله عز وجل: (وإذ أخَذ اللهُ ميثاقَ الذين أُوتُوا الكتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ للناسِ ولا تَكتُمونه).

وبهذا نعلم متى يكون الجدل محمودًا ومتى يكون الجدل مذمومًا.