تظاهرت الأحاديث النبوية على التفريق بين بول الصبي والصبية اللذين لم يأكلا الطعام واكتفيا بالرضاع ، وترجح بهذه الأحاديث أن بول الصبي الرضيع ينضح (يرش) بالماء ، وأن بول الصبية الرضيعة يغسل . فإن أكلا الطعام فلا فرق بينهما فيغسل بولهما جميعا .

أما الحكمة من وراء هذا التفريق فالأصل امتثال الأحكام الشرعية طاعة لله ورجاء ثوابه من غير التفات للحكم ، ولا بأس في الاجتهاد للتعرف على الحكم المرجوة من هذه الأحكام ، وسواء عرفنا طرفا من حكمة التشريع أو لم نعرف فطاعة ربنا هي الأساس ، خاصة فيما تخفي علينا حكمته .

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتاب فقه الطهارة :

خفف الشرع في تطهير بول الغلام الرضيع، بخلاف بول الأنثى الرضيعة. لحديث: “يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام ” أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والبزار وابن خزيمة من حديث أبي السمح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الحاكم.

-وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل”.

وأخرجه أيضا ابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح عن علي موقوفا.

-وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والطبراني ـ من حديث أم الفضل لبابة بنت الحارث ـ قالت: ” بال الحسين بن علي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك، والبس ثوبا غيره، حتى أغسله، فقال: ” إنما ينضح من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى “.

-وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم قيس بنت محصن ” أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله “.

-وفي صحيح البخاري من حديث عائشة قالت: ” أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه، فبال عليه، فأتبعه الماء “.

-وفي صحيح مسلم عنها قالت: ” كان يؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم، ويحنكهم، فأُتي بصبي، فبال عليه، فدعا بماء، فأتبعه بوله ولم يغسله ” فهذا تصريح بأنه لم يغسله، فيكون إتباعه الماء: إما مجرد النضح كما وقع في الحديثين الآخرين، أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل.

قال في الروضة الندية:

وبالجملة فالتصريح منه صلى الله عليه وسلم بالقول بما هو الواجب في ذلك هو الأولى بالاتباع، لكونه كلاما مع أمته، فلا يعارضه ما وقع من فعله، على فرض أنه مخالف للقول.

وقد ذهب إلى الاكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة، منهم: علي وأم سلمة والثوري والأوزاعي والنخعي وداود وابن وهب وعطاء والحسن والزهري وأحمد وإسحاق ومالك في رواية، وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه.

وذهب بعض أهل العلم ـ وقد حكي عن مالك والشافعي والأوزاعي ـ إلى أنه يكفي النضح فيهما، وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية.

وذهب الحنفية رحمهم الله وسائر الكوفيين إلى أنهما سواء في وجوب الغسل؛ وهذا المذهب كالذي قبله في مخالفة الأدلة؛ وقد استدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم، ولا يخفى على أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام؛ وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية فإنه القياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار.

وإنما فرق الشارع بين الرضيع الذكر والرضيعة الأنثى لحكمة خفيت على أبي محمد ابن حزم، وتتمثل في الأمور التالية:

أن بول الصبية أغلظ وأنتن من بول الصبي، كما هو مشاهد.

2- أن بولها يتركز في مكان واحد، فيكون تأثير النجاسة فيه أقوى، ولا ينتشر كبول الصبي، فيخف تأثيره.

3- أن غسل بول الصبية أيسر لتركيزه في موضع واحد، بخلاف بول الصبي الذي ينتشر على مساحة أكبر، فيشق غسله، فناسب التخفيف فيه.

يقول الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر ـ رحمه الله ـ في كتابه أحسن الكلام في الفتوى والأحكام في الحكمة من التفريق بين بولي الذكر والأنثى :

مبدئيًا أقول : تنفيذ الأحكام الشرعية لا يُشْتَرَط له النَّص على حِكْمة مشروعيتها ، ولا فهم هذه الحِكْمَة ، فإن كانت منصوصة فبها ، وإلا كان علينا الاتِّباع ، ولا بأس من البحث لالتماس حِكمة للتشريع ، وسواء صحَّ ما وصل إليه البحث أو لم يصح فذلك لا يُؤثر على الحكم الشرعي .

وقد حاول العلماء أن يجدوا حِكمة لهذا التفريق فأتوا بوجوه ذكر صاحب كفاية الأخيار في فقه الشافعية عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد أنها ركيكة جدًا لا تستحق أن تُذْكَر ، وهي راجعة إلى اختلاف طبيعة البوْل لكلٍّ منهما تحتاج في تحقيقها إلى ذوي الخِبْرَة ، ومن أقرب الوجوه أن النفوس أشدُّ تَعَلُّقًا بالصبيان ، ولذلك يميلون إلى حملهم كثيرًا فَخَفَّفَ الله عنهم طهارة بوْلِهِم ، وهذا المعنى مفقود غالبًا بالنسبة للإناث ، فجرى الغسل فيهن على القياس ، هذا ما قالوه في ذلك .