حرم الإسلام الخمر، وجعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – الدواء بما هو مباح، وبين أن الخمر داء، واكتشف العلم الحديث أنه ما من داء تصلح الخمر لدوائه إلا وله بديل حلال، لذا فقد منع جمهور الفقهاء التداوي بها، وقد جاء النهي الصريح عن التداوي بالمحرم .
إلا أن البعض أجاز ذلك بشروط منها:

-أن تتعين الخمر كدواء، كأن لا يجد غيرها.

-وأن يعينها طبيب مسلم عدل.

-وألاّ يؤخذ منها إلاّ بقدر الضرورة ، إن كانت هناك ضرورة.

هذا ما انتهى إليه جمهور الفقهاء المعاصرين وهذ بعض فتاواهم :

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
كان الإسلام حاسما كل الحسم في محاربة الخمر وإبعاد المسلم عنها، وإقامة الحواجز بينه وبينها، فلم يفتح أي منفذ – وإن ضاق وصغر- لتناولها أو ملابستها.

ولم يبح للمسلم شربها ولو القليل منها، ولا ملابستها ببيع أو شراء أو إهداء أو صناعة، ولا إدخالها في متجره أو في بيته، ولا إحضارها في حفلات الأفراح وغير الأفراح، ولا تقديمها لضيف غير مسلم، ولا أن تدخل في أي طعام أو شراب.

بقي هنا جانب قد يسأل عنه بعض الناس وهو استعمال الخمر كدواء.

وهذا ما أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فقد سأل رجل عن الخمر، فنهاه عنها، فقال الرجل: إنما أصنعها للدواء. قال صلى الله عليه وسلم: “إنه ليس بدواء ولكنه داء” وقال عليه السلام: “إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام”.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه في شأن المسكر: “إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم”.

ولا عجب أن يحرم الإسلام التداوي بالخمر وغيرها من المحرمات، فإن تحريم الشيء -كما قال الإمام ابن القيم– يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع.

وقال: وأيضا، فإن في إباحة التداوي به -ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه- ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، وبخاصة إذا عرفت النفوس أنه نافع لها، ومزيل لأسقامها، جالب لشفائها.

وأيضا فإن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء.
وقد تنبه ابن القيم رحمه الله إلى جانب نفسي هام فقال: إن من شرط الشفاء الدواء تلقيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء. ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد منفعتها وبركتها، وحسن ظنه بها وتلقيه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيمانا كان أكره لها، وأسوأ اعتقاد فيها، وكان طبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء لا دواء.

ومع هذا فإن للضرورة حكمها في نظر الشريعة، فلو فرض أن الخمر أو ما خلط بها تعينت دواء لمرض يخشى منه على حياة الإنسان بحيث لا يغني عنها دواء آخر -وما أظن ذلك يقع- ووصف ذلك طبيب مسلم ماهر في طبه، غيور على دينه، فإن قواعد الشريعة القائمة على اليسر، ودفع الحرج، لا تمنع من ذلك، على أن يكون في أضيق الحدود الممكنة (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) سورة الأنعام:145.

ويقول الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق – رحمه الله :-
التداوي بالخمر حرام؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “لم يجعل الله شفاءَ أمتي فيما حرَّم عليها”؛ ولأن الشفاء مظنون، والحُرْمة مقطوع بها، ولا يُغَلَّب مظنون على مقطوع، ومع ذلك فإن الخمر وسائر ما حرم الله على المؤمن حلال إن تعيَّن لحفظ الروح؛ عملًا بقوله ـ تعالى ـ: (فَمَنِ اضطرَّ في مَخْمَصةٍ غيرَ مُتَجانفٍ لإثمٍ فإنَّ الله غفور رحيمٌ(  المائدة 3
وذلك كما لو كان على وشك الموت جُوعًا، ولم يجد إلا المَيْتة أو لحم الخنزير أو جَرْعة من خمر، وكما لو كان على الأكل ووقفت اللقمة، وليس لديه إلا زجاجة من خمر بالقُرْب منه فعليه أن يأخذ منها ما يُزيل به غُصَّته.

أما أمر التداوي فإن في تقدُّم الاختراعات الكيماوية في العصر الحاضر ما يجعل التداوي بالخمر أمرًا غير مُحَتَّم؛ إذ في غيرها مما ابتدعه الإنسان وجاء به العلم ما يُغني عنه، ولقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخمر ما معناه: “إنها ليست دواءً ولكنها داء”.

ويقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا– رحمه الله-:

اختلف العلماء في التداوي بالخمر ، فمنعه بعضهم مطلقًا ، وأجازه بعضهم بشرط أن لا يقوم مقام الخمر غيرها في ذلك ، ومَن عرف حكمة تحريم الخمر وأسبابه ( علم أن ) التداوي الحقيقي لا يتحقق فيه التحريم ؛ لأنه لا يسكر ولا يضر ، ولا يكون سببًا للعداوة والبغضاء ، ولا يصد عن ذكر الله ، ولا عن الصلاة ؛ ولكن المؤمن المتقي يبعد عن المحرم بقدر الاستطاعة لئلا يأنس به ، وكم من متدين سولت له نفسه شرب الخمر بحجة التداوي مكابرة لشعورها الخفي بالشهوة ، ولم يكن هناك حاجة حقيقية إلى التداوي بالخمر إلا أن تكون كلمة يرمي بها فساق الأطباء : اشرب كذا لأجل تقوية المعدة ، فيشرب المغرور فينتعش فيعتاد فيدمن فيكون من الفاسقين ، ويضيع الدنيا والدين !

ويقول فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله في كتابه الفتاوى :

الخمر هي أمُّ الخبائث، وهي مُتلفة للمال، مُذهبة للعقل، مُسقطة للمَروءة، مُسْقمة للبدن، وهي التي تجلب للجسم الداء الدفين والمرض المَكين وهي التي تهدم الحياة وتُتلف الأعصاب والألياف، وتُحطِّم المناعة والمقاومة، وإذا كان بعض الأطباء يُهمل أمر الدين في هذه الناحية، ويتسرَّع فيَصف الخمر علاجًا لمريضه كمُسكنٍ وقْتيٍّ، أو سَتْرٍ زمنيٍّ للداء، فإن هذا مِن عدم البصر بدقائق الطبِّ وأسراره، ومن ضعْف الروح التي يجب أن تحاول التوفيق، بين الدين والطب .

وقد أثبتت البحوث الطبية الحديثة أنه ما من مرضٍ تُستعمل فيه الخمر كعلاج إلا ويُوجد بدل الخمر دواء آخر يقوم مَقامها، ويُنجِّي من عواقبها السُّود، وإذا كان الأطباء أنفسهم الذين أُوتوا البصر بأمور مهنتهم الدقيقة وأسرار صنعتهم الجليلة يُقرِّرون هذا، فيخدمون المجتمع والأحياء والدين، فلماذا تلجأ بعد هذا إلى استعمال الخمر في الدواء؟

ومن عجبٍ أن النبي الأمي الذي بعثه الله منذ مئات ومئات من السنين يُشير إلى هذا إشارة بليغة مُعجزة فيقول في حديثه الشريف: “إن اللهَ أنزلَ الداءَ والدواءَ، وجعل لكلِّ داءٍ دواءً؛ فتداووا، ولا تتداووا بمُحرم“… وسأل طارق بن سويد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن الخمر، فنهاه عنها، فقال طارق: إنما أصنعها للدواء، فقال الرسول: “إنه ليس بدواء، ولكنه داء “. وفي رواية أن الرسول قال عن الخمر: “إنها داء وليست بدواء “.

بل ومن عجبٍ أيضًا أن يدرك عربي في جاهليته ما في الخمر من سيئات ومنكرات، وما تؤدي إليه من مقابح ومآثم، فيُحرِّمها على نفسه؛ فهذا قيس بن عاصم الصحابي المشهور، الذي أسلم في وفد بني تميم، سنة تسع من الهجرة، والذي قال فيه الرسول الكريم: ” هذا سيد أهل الوَبَرِ “. كان عاقلاً حليمًا، وكان في الجاهلية يشرب الخمر على عادة قومه، فسكِر ذات يوم وأعطى الخمَّار مالاً كثيرًا، ثم عاد إلى بيته فغمز ابنته وسبَّ أبويها وتكلم كلامًا قبيحًا، فلمَّا أفاق أخبروه بذلك، فحرَّم الخمر على نفسه وهو في الجاهلية، وقال في سَبِّهَا أشعارًا كثيرة، منها (من الوافر )

رأيت الخمر فاسدةً، وفيها خصالٌ تُفسدُ الرجلَ الحليمَا
فلا واللهِ أشربُها صحيحًا ولا أشقَى بها أبدًا سقيمَا
ولا أُعْطِى بها ثمنًا حياتي ولا أُعْطِي لها أبدًا نديمَا
فإنَّ الخمْرَ تَفضحُ شاربِيهَا وتَجْبِيهمْ بها الأمرَ العَظيمَا

أظن أنه يسهل علينا بعد ذلك كله أن نعرف أن الإسلام يُحرِّم استعمال الخمر كدواء، وهذا ما أجمع عليه جمهور العلماء، على أن البعض قد قال بجواز التداوي بالنجَس والخمر عند الاضطرار، بشرط أن يُشير بذلك الطبيب المسلم الحاذق، وأن يُقتصر فيه على قدر الضرورة والحاجة.