التأمين نظام أوربي ظهر أول عَقْدٌ له في ألمانيا في 12 من مايو سنة 1910 م، وهو يقوم على الوقاية من الخسارة والتعويض وظهرت بعض أنواعه في الأقطار الإسلامية، في أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، وتناوله العلماء بالبحث لمعرفة حُكْمِه على ضوْء الأدلة الشرعية والمعاملات الجارية منذ ظهور الإسلام.
كان أول من تحدث عنه هو ” محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين ” في حاشية ” رد المحتار ” على ” الدر المختار ” للحصكفي شرح ” تنوير الأبصار ” للغُزِّي، حيث تحدث عن ” السوكرة ” وهى كلمة منقولة عن الغرب فيها معنى التأمين وتنطق بالإنجليزية ” سيكيوريتي ” security ، وقريبًا من ذلك بالفرنسية securite والأصل اللاتيني ” سيكوريتاه ” secouitas .
وعرَّفه ابن عابدين بأنه عقد تأمين بحري، وبيَّن حكمه فقال : إن عُقِد في بلد إسلامي كان عقدَ معاوضةٍ فاسدًا، لا يلزم الضمان به؛ لأن فيه التزامَ ما لا يلزم .
ثم كُتبت في هذا الموضوع رسائل وبحوث، وصدَرت فتاوى وأحكام، من العلماء وقضاة المحاكم الشرعية منها :
1 ـ فتوى الشيخ بكري الصَّدَفي سنة 1910 م عن التأمين على الحياة، بأنه مُحَرَّم .
2 ـ فتوى الشيخ محمد بخيت المُطيعي سنة 1919 م عن التأمين ضد الحريق، بأنه مُحرَّم، وله في ذلك رسالة ” أحكام السوكورتاه ” المطبوعة سنة 1906، 1932 م رد فيها على سؤال من علماء سالونيك .
3 ـ فتوى الشيخ عبد الرحمن قراعة سنة 1925م بحُرْمَة التأمين على الحياة وضد الحريق .
4 ـ فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق سنة 1980م عن التأمين ضد الحريق، ونصها :ـ
المعروف أن وثيقة التأمين ضد الحريق التي تصدرها شركات التأمين في مصر تحتوي على بند مضمونه ” تتعهد الشركة بتعويض المُؤَمَّن له أو ورثته أو منفِّذي وصيته أو مديري تركته كلِّ تَلَفٍ مادي بسبب الحريق بالعين المؤَمَّن عليها طبقًا للشروط العامة والخاصة الواردة بهذه الوثيقة ” . ونصت المادة 766 من التقنين المدني المصري (المعمول به الآن رقم 131 لسنة 1948م) على أنه ” في التأمين ضد الحريق يكون المؤمِّن مسئولاً عن كافة الأضرار الناشئة عن حريق أو بداية حريق يمكن أن تصبح حريقًا كاملاً، أو عن خطر حريق يمكن أن يتحقق، والتأمين ضد الحريق على هذا يكون مقصودًا به تعويض المؤَمَّن عليه عن خسارة تلحق ذمته المالية بسبب الحريق ” .
وتطبيقًا لنصوص هذا القانون يُنْشِيء عقدُ التأمين التزاماتٍ على عاتق كلٍّ من المؤمِّن والمؤمَّن له، إذ على هذا الأخير أن يدفع أقساط التأمين، وعلى الأول أن يدفع للمؤمَّن له العوض المالي أو المبلغ المؤمَّن به، ومع هذا فهو من الوِجْهَة القانونية يُعْتَبَر عقدًا احتماليًا، حيث لا يستطيع أيٌّ من العاقدين أو كلاهما وقت العقد معرفة مدى ما يُعطِي أو يأخذ بمقتضاه، فلا يتحدد مدى تضحيتة إلا في المستقبل تبعًا لأمر غير مُحَقَّق الحصول، أو غير معروف وقت حصوله، وإذا كان واقع عقد التأمين من وجْهَة هذا القانون أنه يُعْتَبَر عملية احتمالية، حيث جاءت أحكامه في الباب الرابع من كتاب العقود تحت عنوان ” عقود الغَرَر” لأن مقابل القسط ليس أمرًا مُحَقَّقًا، فإذا لم يتحقق الخطر فإن المُؤَمِّن لن يدفع شيئًا ويكون هو الكاسب، وإذا تحقق الخطر ووقع الحريق مثلاً فسيدفع المُؤَمِّن إلى المؤمَّن له مبلغًا لا يتناسب مع القسط المدفوع، ويكون هذا الأخير هو صاحب الحظِّ الأوفى في الأخذ، وبذلك يتوقف أيهما الآخذ ومقدار ما يأخذه من عملية التأمين على الصُّدفة وحدها .
وإذا كان عقد التأمين ضد الحريق بهذا الوصف في القانون الذي يحكمه ـ تعيَّن أن نعود إلى صور الضمان والتضمين في الشريعة الإسلامية لنحتكم إليها في مشروعية هذا العقد أو مخالفته لقواعدها .
وإذا كان المعروف في الشريعة الغرَّاء أنه لا يجب على أحد ضمانِ مالٍ لغيره بالمِثْل أو بالقيمة إلا إذا كان قد استولى على هذا المال بغير حق، أو هدمه مثلاً أو تسبب في إتلافه، كما لو حفر حُفْرة في الطريق فسقطت فيها سيارة أو حيوان، أو وضع يدًا غير مُؤْتَمَنة على مال، كيد البائع بعد البيع، أو يد السارق، أو غَرَّ شخصًا كأنْ طلب منه أن يسلك طريقًا مؤكِّدًا له أنه آمن، فأخذ اللصوص ماله فيه، أو كَفَلَ أداء هذا المال ولا شيء من ذلك بمتحقِّق في التأمين ضد الحريق، بل وغيره من أنواع التأمين التجاري، حيث يَقضي التعاقد أن تضمن الشركة لصاحب المال ما يَهلِك أو يَتلَف أو يضيع بغرق أو حريق، أو بفعل اللصوص وقطاع الطريق، كما أن المُؤَمِّن لا يُعَد كفيلاً بمعنى الكفالة الشرعية، وتضمين الأموال بالصورة التي يحملها عقد التأمين محفوف بالغَبْن والحَيْف والغَرَر، ولا تُقِرُّ الشريعة كَسْبَ المال بأيٍّ من هذه الطُّرُق وأشباهها؛ لأنها لا تُبِيح أَكْلَ أَمْوَالَ النَّاس بغير الحق، قال الله تعالى ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَاَلُكْم بَيْنَكُم بالبَاطِل … ) وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَاَلُكْم بَيْنَكُمْ بالبَاطِل إلَّا أن تَكُون تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) .
وإنما تُبيح العقود التي لا غَرَرَ فيها ولا ضرر بأحد أطرافها، وفي عقد التأمين غَرَرٌ وضرر مُحَقَّقٌ بأحد الأطراف؛ لأن كل عمل شركة التأمين أنها تجمع الأقساط من المتعاقدين معها، وتحوز من هذه الأقساط رأس مال كبير تستثمره في القروض الرِّبوية وغيرها، ثم تدفع من أرباحه الفائقة الوفيرة ما يلزمها به عقد التأمين من تعويضات عن الخسائر التي لَحِقَتْ الأموال المُؤَمَّن عليها، مع أنه ليس للشركة دخلٌ في أسباب هذه الخسارة، لا بالمباشرة ولا بالتسبب، فالتزامها بتعويض الخسارة ليس له وجه شرعي، كما أن الأقساط التي تجمعها من أصحاب الأموال بمقتضى عقد التأمين لا وجه لها شرعًا أيضا، وكل ما يحويه عقد التأمين من اشتراطات والتزامات فاسد، والعقد إذا اشتمل على شرط فاسد كان فاسدًا .
والمراد من الغَرَر في هذا المقام المُخاطرة، كما جاء في مُوَطَّأ مالك في باب بيع الغَرَرَ، أو ما يكون مستور العاقبة، كما جاء في مَبْسُوط السَّرَخْسِي ” ج 13 ص 194 ” . وهذا مُتوفِّر في عقد التأمين؛ لأنه في الواقع عقد بيع مال بمال وفيه غرر فاحش، والغرر الفاحش يؤثِّر على عقود المعاوضات المالية في الشريعة باتفاق الفقهاء، ولا خلاف إلا في عقود المعاوضات غير المالية، وهو قمار معنى؛ لأنه مُعلَّق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع، وبذلك يكون مبناه الاعتماد على الحظِّ فيما يحصل عليه أيٌّ من المتعاقدين، ومع هذا ففي عقد التأمين تعامل بالرِّبا الذي فسَّره العلماء بأنه زيادة بلا مقابل في معاوضة مال بمال، والفائدة في نظام التأمين ضرورة من ضرورياته ولوازمه، وليست شرطًا يُشترط فقط في العقد . فالربا في حساب الأقساط، حيث يَدْخُل سعر الفائدة، وعقد التأمين مَحَلُّه عبارةٌ عَنْ الأقْسَاطِ، مُضَافًا إليها فائدتها الرِّبوية، وتُستثْمر أموال التأمين في الأغلب، أو علي الأقل احتياطها، بسعر الفائدة، وهذا ربا. وفي معظم حالات التأمين ـ حالة تحقُّق أو عدم تحقق الخطر المؤمَّن ضده ـ يدفع أحد الطرفين قليلاً ويأخذ كثيرًا، أو لا يدفع ويأخذ، وهذا ربا .
وفي حالة التأخير في سداد أي قسط يكون المؤمَّن له ملزَمًا بدفع فوائد التأخير، وهذا ربا النسيئة، وهو حرام شرعًا قطعًا .
وإذا كان التأمين ضد الحريق من عقود الغَرَر ـ بحكم التقنين المدني المعمول به في بعض البلاد العربية، فضلاً عمَّا فيه من معنى القمار ومن الغَبْن ومن الشروط الفاسدة، وكان القمار وعقود الغرر من المُحَرَّمات شرعًا بأدلتها المبسوطة في موضعها من كتب الفقه ـ كان هذا العقد بواقعه وشروطه التي يجري عليها التعامل الآن من العقود المحظورة شرعًا .
ولما كان المسلم مسئولاً أمام الله سبحانه عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الترمذي ونصه ” لا تَزُول قَدَما عبْدٍ يومَ الْقِيَامَةِ حتى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِه فِيمَ أَفْنَاه، وعَنْ عِلْمِه فيمَ عَمِل بِه، وعَنْ مَاله من أين اكْتَسَبَه وفيمَ أَنْفَقَه وعن جسْمِه فيمَ أبْلاه ” وجب على المسلمين الالتزام بالمعاملات التي تُجيزها نصوص الشريعة وأصولها، والابتعاد عن الكسوب المحرمة أيًّا كانت أسماؤها ومغرياتها، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.
ولمَّا صدر قانون تطوير الأزهر رقم 103 لسنة 1961 م وأُنشئ بمقتضاه مجمع البحوث الإسلامية الذي حلَّ مَحَلَّ جماعة كبار العلماء ـ رُئي بحث موضوع التأمين بشكل جماعي، فأُثِير في المؤتمر الثاني للمجمع الذي عقد سنة 1965 م وصدر قراره بحل التأمين التعاوني الذي تقوم به الجمعيات التعاونية، وكذلك حل نظام المعاش الحكومي، كما صدر القرار بالاستمرار في دراسة أنواع التأمينات الأخرى، ونص القرار هو :
1 ـ التأمين الذي تقوم به جمعيات تعاونية يشترك فيها جميع المُسْتَأمنين لتؤدي لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات وخدمات ـ أمر مشروع، وهو من التعاون على البِرِّ .
2 ـ نظام المعاش الحكومي وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المُتبع في بعض الدول، ونظام التأمينات الاجتماعية المُتبع في دول أخرى ـ كلُّ هذا من الأعمال الجائزة .
3 ـ أما أنواع التأمينات التي تقوم بها الشركات أيًّا كان وضعها، مثل التأمين الخاص بمسئولية المُسْتَأمن، والتأمين الخاص بما يقع للمُسْتَأْمن من غيره، والتأمين الخاص بالحوادث التي لا مسئول فيها، والتأمين على الحياة وما في حكمه ـ فقد قرَّر المؤتمر الاستمرار في دارستها بواسطة لجنة جامعة لعلماء الشريعة وخبراء اقتصاديين وقانونيين واجتماعيين، مع الموقوف ـ قبل إبداء الرأي ـ على آراء علماء المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية، بالقدر المستطاع .
وتنفيذ لهذا القرار قامت أمانة المجمع بطرح نقاط على العالم الإسلامي لبيان الرأي فيها، من أهمها:
1 ـ هل يجوز إحداث عقود غير المعروفة في صدر الإسلام أو لا يجوز ؟
2 ـ هل تُطبَّق أحكام الضمان والكفالة على التأمين أو لا تطبق ؟
3 ـ هل في التأمين جهالة وغَرَر وقمار ومراهنة أو لا ؟
4 ـ هل فيه أكْل لأموال الناس بالباطل أو لا ؟
5 ـ هل في بعض أنواعه ربًا أو شبهة ربًا، أو هو خُلو من ذلك ؟
6 ـ هل يمكن أن نُطبِّق على التأمين أحكام عقد الصرف أو لا ؟
7 ـ هل فيه إعانة الشركات على الاستغلال المُحَرَّم، وإذا كان فيه إعانة فهل نُبطله شرعًا أو لا نبطله ؟
8 ـ هل فيه غَبْن مُبْطل ؟
9 ـ هل في إباحته للمسلمين إبطال مقوماتهم وخصائصهم الدينية بدون حاجة إليه، أو ليس فيه شيء من ذلك ؟
10 ـ هل يصحُّ الاستناد في إباحته إلى العُرْفِ والضرورة الاجتماعية أو لا يصح ؟
ووردت إلى أمانة المجمع إجابات مختلفة، تتلخَّص في ثلاثة آراء :
1 ـ رأي يُحَرِّمه مطلقًا بجميع أنواعه .
2 ـ رأي يُجِيزه مطلقًا بجميع أنواعه .
3 ـ رأي يُحَرِّم التأمين على الحياة ويُبِيح ما عداه .
والذين حكموا بحُرْمَتِه استندوا إلى أمور، منها :
1 ـ أنه لا يوافق التعاقدات الشرعية المعروفة، والضمان الذي فيه ليس بالكفالة أو التعدي والإتلاف، حيث إنه لا يقع على عين أو منفعة، بل هو عقد وقع على تعهد، أي ضمانة، والتعهد ليس عيْنًا ولا يُنتفع بذاته، والمال المتعاقَد عليه أثر من آثار المعاملة، والضمان فيه ضمُّ ذِمَّة إلى ذِمَّة، أما التأمين ففيه ضمان من جهة واحدة، فلم يستوف شروط الضمان .
2 ـ إن الحياة ليست مالاً، فلا يصح أن يكون المبلغ عِوضًا، ولا يمكن ضمانها بحال؛ لأنها بيد الله سبحانه .
3 ـ أن الشركة لم تَجْنِ عليه، فالذي توَفَّاه هو الله سبحانه .
4 ـ ما فيه من الَغَرر والمخاطرة بالمال، حيث لا نعرف متى يموت المستأمِن، فإذا لم يمت في المدة المضروبة لم يأخذ شيئًا مما دفع، فكان هو الخاسر وكانت الشركة هي الكاسبة لما دفعه، ولثمرات استثماره طوال المدة المُتفَق عليها . وإن مات قبل تمام المدة دَفعت لشركة له كل ما اتُّفِق عليه، حتى لو كان بعد دفع قسط واحد، فكان هو الكاسب، وكانت هي الخاسرة .
وكذلك في التأمين على الأشياء، إن لم تتلف في المدة المضروبة كان المؤمِّن ـ أي الشركة ـ هي الكاسبة، والمستأمَن هو الخاسر . وإن تلفت وكان العوض أكثر مما دفعه كان هو الكاسب، والشركة هي الخاسرة . فالصُّدفة هي التي تحدد أيُّهما يَكسب وأيهما يَخسَر .
5 ـ ما فيه من الجهالة بما يُدْفع في التأمين على الأشياء .
والذين حكموا بحِلِّ التأمين استندوا إلى أمور، منها :
1 ـ أن العقود الجديدة لا يشترط أن تكون مُشبِهة للعقود المعروفة في الإسلام، فالحياة تتطور، والأصل في العقود الإباحة حتى يقوم الدليل على حُرْمَتِها، ولا يوجد دليل منصوص عليه ، والقياس لا يخلو من المناقشة .
2 ـ إن الغَرَر الذي فيه ليس غررًا فاحشًا يُؤدي إلى التنازع، فهو يُباح عند الحاجة، قياسًا على عَقد الموالاة الذي أقرَّه الإسلام أولاً، حيث لا يدري أيُّ الطرفين يموت قبل الآخر حتى يَرِثه .
3 ـ إن التأمين على الحياة ليس بالمعنى المتبادر إلى الذهن من ظاهر اللفظ، ضمانًا لحياة الإنسان، فهي بيد الله، وإنما المُراد ضمان مُسْتَقْبَله عند العجز أو المرض، أو مستقبل أولاده وورثته، فكلمة الحياة تُطْلَق على سببها العادي وهو الرزق . فمن عبارات الفرنسيين :
il gagne sa vie أي: يكسب حياته أي ما يحيا به، هذه هي خلاصة الآراء وما اعتمدت عليه في الحُكْم على التأمين، ولم يَتخذ مجمع البحوث قرارًا موحَّدًا إلى الآن في التأمين على الحياة بالذات .
وهذا التأمين ليس أمرًا ضروريًا لحياتنا بحيث إذا لم يوجد كانت التهلُكَة أو العَنَت والحَرَج، حتى يتجاوز عما فيه من سلبيات، فقد عاش المسلمون قرونًا طويلة كانوا فيها أقوى الأمم وأَعزَّها، دون حاجة إلى هذه العقود التي وضح فيها الاستغلال من جماعة فكَّروا كيف يسيطرون على غيرهم بوسائل في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب .
ولهذا يَترجَّح القول بحرمته، لأضراره الكثيرة التي لا يوازيها ما قد يكون فيه من منفعة، وقد صدرت بذلك فتوى من لجنة الفتوى بالأزهر الشريف في 24 من إبريل سنة 1968م، ومن دار الإفتاء المصرية بتاريخ 26 من يناير 1980 م، وأخرى بتاريخ 14 من ديسمبر سنة 1980 م، وجاء في البند السابع من فتوى يناير : أن عقود التأمين بوصفها السائد ذات القسط المحدود غير التعاوني من العقود الاحتمالية، تحوي مقامرة ومخاطرة ومراهنة .
وجاء توضيح ذلك بأنه بتتبع قواعد الشريعة وأحكامها يثبت أنه لا يجب على أحد ضمان مال لغيره إلا إذا كان قد استولى على هذا المال بغير حق، أو أضاعه على صاحبه، أو أفسد عليه الانتفاع به بطريق مباشر أو بالتسبب .
وأسباب الضمان المشروع في هذه الأوجه لا يتحقق في شركة التأمين على الحياة ذات القسط المحدود، وهي في الحقيقة شركة ضمان لسلامة الأنفس، وهو ما لا يجوز الضمان فيه شرعًا، ولأن في عقد التأمين على الحياة غَرَرًا، بمعنى أنه لا يُمكن لأحدِ المُتَعاقدَيْن أو كلاهما وقت العقد معرفة مدى ما يُعْطي أو يأخذ بمُقْتَضَى هذا العقد، والغَرَر والمخاطرة مُبْطِلَة للعقود في الإسلام .
لمَّا كان ذلك فإن عقود التأمين على الحياة بوضعها السائد ـ ذات القسط المحدود غير التعاوني ـ من العقود الاحْتِمَالية تحوى مقامرة ومخاطرة ومراهنة، وبهذا تكون من العقود الفاسدة بمعايير العقود في فقه الشريعة الإسلامية، والعقد الفاسد يَحْرُم على المسلم شرعًا التعامل بمقتضاه، وكلُّ كسب جاء عن طريق خبيث فهو حَرام .
ذلك إلى جانب الفتاوى والأحكام التي سبق ذكرها، ولم تصدر بالحِلِّ فتوى من الشيخ محمد عبده، فالفتوى المُسْتَغَلَّة للدعاية والمحذوف بعضها كانت في موضع آخر غير هذا التأمين .
وإذا قيل : إن شركات التأمين تستثمر الأموال بما يُفيد المشتركين ويُفيد الوطن، نقول : يمكن أن تتم هذه الاستثمارات عن طريق تكوين شركة مساهمة يَشْتَرِك فيها المُؤَمَّنُ عليهم، ويتولَّى إدارتها بالوكالة عنهم مجلس يختارونه من بينهم أو من غيرهم، تكون أرباحها للمساهمين . ولمجلس الإدارة أجره الذي يتفق عليه . أو عن طريق المضاربة التي يكون الرِّبح فيها للمُؤمَّن عليهم ولمجلس الاستثمار يُوَزَّع بالنسبة التي يُتفق عليها، مع تغيير كلِّ العقود الحالية في شركات التأمين، وحذف ما يتعارض منها مع الشرع .
وشروط الشركة والمضاربة مبسوطة في كُتبِ الفقه، ويمكن الاختيار من الأقوال المُتَعَدِّدَة ما يتناسب مع العصر، ولا يتعارض مع الأصول المقررة .