حرم الإسلام الكهانة بكل صورها من التنجيم والعرافة وضرب الرمل وغير ذلك ، بل سمى من يأتي هؤلاء مصدقا لهم كافرا ، وفي رواية أخرى أهدر صلاته أربعين يوما لمن جاءهم من غير تصديق لهم، ولم يقبلها لمجرد إتيانه هؤلاء .

يقول الدكتور يوسف القرضاوي:-

الكهانة ـ كما يذكر الحافظ في الفتح ـ: ادِّعاء علم الغيب ـ كالإخبار بما سَيَقَعُ في الأرض..

والأصل فيه: استراق الجني السمع من كلام الملائكة، فَيُلْقِيه في أُذُن الكاهن.

والكاهن: يُطلَق على العَرَّاف، والذي يَضْرِب بالحَصَى، والمُنَجِّم، ويُطْلَق على مَنْ يقوم بأمر آخر، ويَسْعَى في قضاء حوائجه.

وقال في “المُحْكَم”: الكاهن: القاضي بالغيب.

وقال في “الجامع” : العرَب تُسَمِّي كلَّ مَنْ أَذِنَ بِشَيء قبلَ وُقوعِه كاهنًا.

وقال الخطابي: الكَهَنَة قوم لهم أذهان حادَّة، ونفوس شِرِّيرة، وطِباع نارِيَّة، فَأَلِفَتْهم الشياطين؛ لما بينهم من التناسُب في هذه الأمور، وساعَدَتْهم بكل ما تَصِل قُدْرَتُهم إليه.

أصناف الكهانة في الجاهلية:

كانت الكِهانة في الجاهلية فاشِيَة، خصوصًا في العرب؛ لانقطاع النبوة فيهم، و هي على أصناف:

أولا- ما يَتَلَقَّوْنَه من الجِنِّ؛ فإن الجِنَّ كانوا يَصْعَدُون إلى جِهة السماء فيركب بعضُهم بعضًا إلى أن يَدْنُوَ الأعلى، بحيث يسمَعُ الكلام، فَيُلْقِيه إلى الذي يَلِيه، إلى أن يَتَلَقَّاهُ مَنْ يُلْقِيه في أذُن الكاهن، فيَزِيد فيه، فلمَّا جاء الإسلام، ونزل القرآن، حُرِسَتِ السماء من الشياطين، وأُرْسِلَتْ عليهم الشهُبُ، فبَقِي من اسْتِراقِهِمْ ما يَتَخَطَّفُه الأعلى فيُلْقِيهِ إلى الأسفل قبل أن يُصِيبَه الشِّهَاب، وإلى ذلك الإشارة بقوله ـ تعالى ـ: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (الصافات: 10)، وكانت إصابة الكُهَّان قبل الإسلام كثيرة جدًّا، كما جاء في أخبار “شق” و “سطيح” ونحوهما، وأما في الإسلام فنَدَر ذلك جدًّا، حتى كاد يَضْمَحِلُّ، ولله الحمد.

ثانيا: ما يُخْبِر الجِنِّي به مَنْ يُوالِيه، بما غاب عن غيره، ممَّا لا يَطَّلِع عليه الإنسان غالبًا، أو يَطَّلِع عليه مَنْ قَرُب منه لا مَنْ بَعُد.

ثالثا: ما يَسْتَنِد إلى ظنٍّ وتخمين وحَدْس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة، مع كَثْرة الكَذِب فيه.

رابعا: ما يَسْتَنِد إلى التَّجْرِبة والعادة، فيَسْتَدِلُّ على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يُضاهي السِّحْر.

وقد يَعْتَضِد بعضهم في ذلك بالزجْر والطرْق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعًا. (انظر: فتح الباري: 10 / 216، 217).

الرسول يُعْلِن الحرب على الكِهانة والكُهَّان:

رَوَى مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلتُ: يا رسول الله، أمور كنَّا نصنَعُها في الجاهلية، كنَّا نأتي الكُهَّان! قال: “لا تأتُوا الكُهَّان”. (صحيح مسلم، حديث “537”).

وروَى الشيخان عن عائشة ـ واللفظ للبخاري ـ قالتْ: سألَ ناسٌ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الكُهَّان، فقال: ” ليس بشيء” ـ أو ” ليسُوا بشيء” ـ فقالوا: يا رسول الله، إنهم يُحَدِّثونَنَا أحيانًا بشيء فيكون حقًّا! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “تلك الكَلِمة من الحق، يَخْطَفُها الجني، فيُقِرُّها في أذُن وَلِيِّه، فيَخْلِطُون معها مائة كَذْبة” (صحيح البخاري مع الفتح: 10 / 216، حديث “5762”، ومسلم، حديث “2228”).

ومعنى قوله: “ليسُوا بشيء”: أي ليس قولهم بشيء يُعْتَمَد عليه، قال القرطبي: كانوا في الجاهلية يَتَرافَعُون إلى الكُهَّان في الوقائع والأحكام، ويَرْجِعُون إلى أقوالهم، وقد انقطعتِ الكِهانة بالبَعْثة المحمدية، لكن بَقِي في الوجود مَنْ يَتَشَبَّه بهم، وثبَت النهي عن إتْيانِهِم، فلا يَحِلُّ إتيانُهم ولا تَصْدِيقُهم (الفتح: 10 / 219).

الكِهانة كُفْر بما أُنْزِل على محمد:

وروى أحمد وأصحاب السنَن عن أبي هريرة مرفوعًا: “مَنْ أَتَى كاهِنًا، فصَدَّقَه بما يقولُه، أو أتى امرأة حائضًا، أو أتى امرأة في دُبُرِها، فقد بَرِئَ ممَّا أُنْزِل على محمد”. (رواه أحمد: 4 / 408، 476، وأبو داود في الطب “3904”، والترمذي في الطهارة “135”، وابن ماجة في الطهارة “639”، ونسبه المنذري للنسائي ـ أيضًا. وذكره في صحيح الجامع الصغير منسوبًا إليهم”5942″).

وروى أحمد والحاكم عنه مرفوعًا ـ أيضًاـ: “ومَنْ أَتَى عَرَّافًا أو كاهِنًا، فصَدَّقَه بما يَقُول، فقد كَفَر بما أُنْزِل على محمد”. (رواه أحمد: 4 / 429، والحاكم في الإيمان، وصحَّحه على شرْط الشيخَيْن ووافقَه الذهبي: 1 / 7، 8).

ورَوَى أحمد ومسلم عن بعض أمهات المؤمنين، وسَمَّاها بعض الرواة: “حفصة”: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “مَنْ أَتَى عَرَّافًا فسَأله عن شيء، لم تُقْبَل له صلاة أربعين ليلة” (رواه مسلم في كتاب السلام. حديث “2230”، ورواه أحمد: 5 / 380).

وأي خُسارة أكبر من عدَم قَبول الصلاة، وهي عمود الإسلام، والصِّلَة اليومية بين العبد وربه؟

وعن ابن مسعود موقوفًا: “مَنْ أتَى عَرَّافًا أو ساحرًا أو كاهنًا، فسأَلَه، فَصَدَّقَه بما يقول، فقد كَفَر بما أُنْزِل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ “.(قال المنذري: رواه البزار وأبو يعلى وجوَّد إسناده في الترغيب. انظر كتابنا: “المنتقى: 1857″، وقال الهيثمي في المجمع “5 / 118”: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، خلا هبيرة بن يريم، وهو ثقة).

ومِثْل هذا لا يُقال بالرأي، فهو في حُكْم المرفوع المَرْوِي مِنْ قبلُ عن أبي هريرة، وهو وَعِيد مُخِيفٌ لمَنْ يَذْهَبُ إلى هؤلاء الدجَّالين، فإن كان يَعْتَقِد أنهم فعلاً يَعْلَمُون الغيب، ويَخْتَرِقون حُجُبَه، فقد دخل في الكفر الأكبر الصريح، المُخالِف مخالفة قَطْعِيَّة للقرآن والسنة، وإلا فقد وقَع في كبيرة من الكبائر التي تَجُرُّ إلى الكفر والعياذ بالله.

وإذا كان هذا شأنُ مَنْ أتَاهُمْ وسَأَلَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ، فما بالُنا بأمر هؤلاء أنفسهم؟ وما مَوْقِفُهم من الإسلام؟ وما موقف الإسلام منهم؟!

روى البزار عن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ قال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ليسَ منَّا مَنْ تَطَيَّر، أو تُطِيِّر له، أو تَكَهَّن، أو تُكِهِّن له، أو سَحَر، أو سُحِر له، ومَنْ أَتَى كَاهِنًا فصَدَّقَه بما يقول، كَفَر بما أُنْزِل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم.” (رواه البزار، وجوَّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب “انظر: المنتقى: 1853”. وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، خلا إسحاق بن الربيع، وهو ثقة:”5 / 117″، وفي إسناده كلام ذكَرَه الألباني في غاية المَرام، لكنه ارتقى بالحديث إلى الحسَن بحديث ابن عباس المذكور).

ورواه الطبراني من حديث ابن عباس دون قوله: “ومن أتى… إلى آخره” بإسناد حسن، كما قال المنذري في الترغيب والترهيب.

وروى البزار كذلك عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “مَنْ أتَى كاهِنًا فصدَّقَه بما قال، فقد كفر بما أُنْزِل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ”. (قال المنذري: رواه البزار بإسناد جيد قَوِي. المنتقى: 1854″، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، خلا عقبة بن سنان، وهو ضعيف”5 / 117″، وتَعَقَّبَه الألباني في غاية المَرام، وانتهى إلى أن الحديث في مَتْنِه صحيح، فقد جاء من ثلاث طرُق عن أبي هريرة خَرَّجَها في الإرواء).

ورَوَى الطبراني عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “لَنْ يَنال الدَّرَجات العُلَى مَنْ تَكَهَّن، أو اسْتَقْسَم، أو رجع من سَفَرِه تَطَيُّرًا” (قال المنذري: رواه الطبراني بإسنادَيْنِ، رواة أحدهما ثِقات، وكذا قال الهيثمي “5 / 118″، وجَوَّد إسناده الألباني في غاية المَرام برقم”286”).

ومعنى “استقسم”: أي: استقسم بالأزلام ونحوها، وفي القرآن: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ) (المائدة: 3).

والتَّطَيُّر: التشاؤم، وهو شيء لا يَنْبَنِي على مَنْطِق ولا قاعدة، كالذين يَتَشَاءمون ببعض الأرقام مثل رقم (13)، أو بعض الأيام، أو بغير ذلك.

وعن قطن بن قبيصة عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ قال: سَمِعْتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: “العِيافة والطِّيَرة والطَّرْق من الجِبْت” (رواه أبو داود في الطب “3907”، ورواه أحمد ـ أيضًاـ: 3 / 477، والنسائي في التفسير، كما في التحفة: 8 / 275، والطبراني: 18 / 941ـ 943، وابن حبان “الإحسان: 6131″، والبيهقي : 8 / 139، وفي سنده حبان بن المخارق أبو العلاء، ويُقال: ابن العلاء لم يُوَثِّقْه غير ابن حبان).

قال أبو داود: الطرْق: الزجر، والعِيافة: الخَطُّ (يعنى الخط بالرمل).

وقال ابن فارس: الطرْق: الضرْب بالحَصَى، وهو جنس من التَّكَهُّن.

وقال لَبِيد:

لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الطوارقُ بالحَصى ولا زَاجِراتُ الطيرِ ما الله صانعُ!

و “الجبت” ـ بكسر الجيم ـ: كلُّ ما عُبِد من دون الله ـ تعالى ـ وقيل : كلمة تَقَع على الصنَم والكاهن والساحر ونحو ذلك.

لماذا كانت الكهانة كفرا بما أنزل على محمد؟

وذلك أن من المُقَرَّر فيما أنزَلَه الله على رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الغيب ممَّا استأثَر الله ـ تعالى ـ بعِلْمِه، فلا يَعْلَمُه إلا هو ـ سبحانه ـ ومَنِ ارْتَضَى من رسول يُعَلِّمُه منه بما يشاء وَفْق الحِكْمة الإلهية.

يقول ـ تعالى ـ في كتابه العزيز: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السماواتِ والأرضِ الغَيْبَ إلِا اللهُ)(النمل: 65).(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) (الأنعام: 59). وقال لرسوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نفعًا ولا ضَرًّا إلا مَا شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاْسْتَكْثَرْتُ منَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 188). وقال: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (الجن: 26 ـ 27).

وروَى ابن عمر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ” مَفاتيح الغيبِ خَمْس لا يَعْلَمُهَا إلا الله ـ تعالى ـ: لا يَعْلَم أحد ما يكون في غَدٍ إلا الله ـ تعالى ـ ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله ـ تعالى ـ ولا يَعْلَم متَى تقوم الساعة إلا الله ـ تعالى ـ ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ـ تعالى ـ ولا يدري أحد متى يجيء المطر إلا الله ـ تعالى”. (رواه أحمد والبخاري، كما في صحيح الجامع الصغير “5884”).

وفي رواية عنه: “أُوتِيتُ مَفاتِيحَ كلِّ شيء إلا الخَمْس: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ الساعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (رواه أحمد: 2 / 85، 86، والآية خُتِمَتْ بها سورة لقمان: 34).

وعن بريدة مرفوعًا: “خمس لا يَعْلَمَهُنَّ إلا اللُه: (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ الساعَةِ… )..إلى آخر الآية الأخيرة من سورة لقمان. (رواه أحمد والرويانى عن بريدة، كما في صحيح الجامع الصغير “3255”).

وقد صحَّ من حديث جبريل المشهور: أن جبريل سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الساعة، فقال: “ما المسؤول عنها بأعْلَم من السائل، ولكني سأخبِرُك بأشراطِها”.

وفي رواية أبي هريرة في “الصحيحَيْنِ”: “في خمس لا يعلمهن الله”… ثم تلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآية. (رواه البخاري “50”، و”4777″، ومسلم”9″).

وكل هذه النصوص تُؤَكِّد أن الغيب لا يعلمه إلا الله: (عَالِمُ الْغَيْبِ والشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (الرعد: 9).

التنجيم ضَرْب من السِّحْر والكِهانة:

والتنجيم: ضرْب من الكِهانة أو السحْر، وهو عِلْم يزعُم أصحابه ربْطَ حوادث الأرض بنجوم السماء، ويدَّعُون أنه سَيَحْدُث كذا في سنة كذا، من البلاء والغلاء، والموت، وقد عرَف الناس كَذِبَهم من قديم، وقالوا فيهم: “كَذَب المُنَجِّمون ولو صدقوا.

وفي الحديث اعتبار عِلْم النجوم هذا شُعْبَة من السحر.

فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا من النجوم اقتبسَ شُعْبة منَ السحْر، زاد ما زاد”. (رواه أبو داود في الطب “3905”، وابن ماجة في الأدب “3726”، وأحمد في المسند “2000”، وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وقد صحَّحه النَّوَوِي في رياض الصالحين، والذهبي في الكبائر، كما في الفيض: 6/ 80).

قال الخطابي: علم النجوم المَنْهِي عنه: هو ما يَدَّعِيه أهلُ التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تَقَع وسَتَقَع في مستقبل الزمان، كإخبارهم بأوقات هُبوب الرياح، ومَجِيء المطر، وظهور الحَرِّ والبَرْد، وتَغَيُّر الأسعار، وما كان في معانيها من الأمور، يَزْعُمونَ أنهم يُدْرِكون مَعْرِفَتها بسَيْر الكواكب في مَجاريها، وباجتماعها واقترانها، ويَدَّعون لها تأثيرًا في السُّفْلِيَّات، وأنها تَتَصَرَّف على أحكامها، وتَجْرِي على قضايا مُوجِباتِها.

وهذا منهم تَحَكُّم على الغيب وتَعاطٍ لعلم استأثَر الله ـ سبحانه ـ به، لا يعلَم الغيب أحدٌ سِواه.

فأما عِلْم النجوم الذي يُدْرَك من طريق المُشاهَدَة والحِسِّ، كالذي يُعْرَف به الزوال، ويُعْلَم به من جِهة القِبلة، فإنه غير داخل فيما نُهِي عنه.

وذلك: أن معرفة رَصْد الظلِّ ليس شيئًا بأكثر من أن الظلَّ ما دام مُتناقِصًا فالشمس بعدُ صاعدةٌ نحو وسْط السماء من الأُفُق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وَسْط السماء نحو الأفق الغربي.

وهذا عِلْم يَصِحُّ دَرْكُه من جهة المُشاهَدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دَبَّرُوه بما اتَّخَذُوا له من الآلة التي يَسْتَغْنِي الناظر فيها عن مُراعاة مُدَّته ومَراصِدَه.

وأمَّا مَا يُسْتَدَلُّ به من جهة النجوم على جهة القِبْلة: فإنما هي كواكب أرصدَها أهل الخِبرة بها من الأئمة الذين لا نَشُكُّ في عِنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها، وصِدْقِهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يُشاهِدُوها بحَضْرة الكعبة، ويشاهدوها في حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم: الدلالة عنها بالمُعاينة، وإدراكنا لذلك بقَبولنا لخَبَرِهم، إذ كانوا غيرَ مُتَّهَمِين في دينهم، ولا مُقَصِّرين في مَعْرِفَتِهم. (من معالم السنن: 5 / 371، 372، مع مختصر المنذري، وتهذيب ابن القيم للسنن).

وبهذا نَتَبَيَّن أن “علم النجوم” المذموم، أو “علم التنجيم”، هو غير “علم الفلك”، الذي نبَغ فيه المسلمون من قديم، وكان لهم فيه علماء راسخون، والذي ارتقى في عصرنا ارتقاء كبيرًا، حتى استطاع الإنسان بواسطته أن يَصِل إلى القمر، ويُحاوِل غَزْو الكواكب الأخرى.

علماء الإسلام مُجْمِعون على حَرْب الكِهانة والسِّحْر:

لا مكان في الإسلام ـ إذن ـ لمُنَجِّم ولا ساحر ولا كاهن ولا عرَّاف. وهذا بإجماع أئمة الإسلام في سائر الأعصار، كما ترى ذلك في شروحهم للأحاديث التي جاءت في ذمِّ الكِهانة والكُهَّان، والعِرافة والعرَّافين.

قال البغوي: العرَّاف: الذي يَدَّعي مَعْرِفة الأمور بمُقَدِّمات يَسْتَدِلُّ بها على المسروق ومكان الضالَّة، ونحو ذلك.

وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يُخْبِر عن المُغَيَّبَاتِ في المستقبل. وقيل: الذي يُخْبِر عمَّا في الضمير.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله، تعالى ـ: إن العَرَّاف اسم للكاهن والمُنَجِّم والرمَّال ونحوهم، كالحازر: الذي يَدَّعِي علم الغيب، أو يَدَّعي الكَشْف.

وقال ـ أيضًا ـ: والمُنَجِّم يدخُل في اسم العرَّاف، وعند بعضهم هو معناه.

وقال ـ أيضًا ـ: والمُنَجِّم يدخُل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكَى ذلك عن العَرَب، وعند آخرين: هو مِنْ جِنْس الكاهن، وأسوأ حالاً منه، فيُلْحَق به من جِهة المعنى.

وقال الإمام أحمد: العِرافة: طَرَف من السحْر، والساحر أخبَثُ.

وقال ابن الأثير: العرَّاف: المنجم، والحازر: الذي يَدَّعي عِلْم الغيب، وقد استأثر الله ـ تعالى ـ به.

وقال ابن القيم ـ رحمه الله، تعالى ـ: مَنِ اشْتَهَر بإحسان الزجر عندهم سمَّوْه عائفًا، وعرَّافًا.

والمقصود من هذا: معرفة أن مَن يَدَّعِي معرفة علم شيء من المُغَيَّبات، فهو إمَّا داخل في اسم الكاهن، وإما مُشارِك له في المعنى فيُلْحَق به، وذلك أن إصابة المُخْبِر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكَشْف، ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأْل، والزجْر، والطِّيَرة، والضرْب بالحَصَى، والخطِّ في الأرض، والتنجيم، والكهانة، والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية، ونَعْنِي بالجاهلية كل مَنْ ليس مِن أتْباع الرُّسُل ـ عليهم السلام ـ كالفلاسفة والكُهَّان والمُنَجِّمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءتْ به الرسُل ـ صلى الله عليهم وسلم ـ وكل هذه الأمور يُسَمَّى صاحبها كاهنًا وعرَّافًا أو في معناهما، فمَنْ أتاهم فصدَّقَهم بما يقولون لَحِقَه الوعيد. وقد وَرِث هذه العلوم عنهم أقوام، فادَّعَوْا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادَّعَوْا أنهم أولياء، وأن ذلك كرامة.

ولا ريب أن مَنِ ادَّعَى الولاية، واستدلَّ بإخباره ببعض المُغَيَّبات، فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن؛ إذ الكرامة أمر يُجْرِيه الله على يد عبده المؤمن التقِي: إما بدُعاء، أو أعمال صالحة لا صُنْع للوَلِي فيها، ولا قُدْرة له عليها، بخِلاف مَنْ يَدَّعِي أنه وَلِي، ويقول للناس: اعْلَمُوا أنِّي أعلَم المُغَيَّبات، فإن هذه الأمور قد تَحصُل بما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسبابًا مُحَرَّمة كاذبة في الغالب.

ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وَصْفِ الكُهَّان: “فَيَكْذِبُونَ معها مائة كَذْبَة”، فبَيَّن أنهم يَصْدُقونَ مرة ويَكِذُبُون مائة، وهكذا حال مَنْ سَلَك سبيل الكُهَّان ممَّن يَدَّعي الوِلاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دَعْواه دليل على كَذِبه؛ لأن في دعواه الوِلاية تَزْكِيَة النفس المَنْهِي عنها بقوله ـ تعالى ـ: (فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (النجم: 32). وليس هذا من شأن الأولياء، فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعَيْبُهم لها، وخَوْفُهم من ربهم، فكيف يَأْتُون الناس ويقولون: اعرَفُوا أنَّنا أولياء، وأنَّا نعلَم الغيب؟ وفي ضِمْن ذلك طلَب المَنْزِلة في قلوب الخَلْق واقتناص الدنيا بهذه الأمور.

وحسبُنا بحال الصحابة التابعين ـ رضي الله عنهم ـ وهم سادات الأولياء، أَ فَكان عندهم من هذه الدعاوى والشَّطَحات شيء؟ لا والله، بل كان أحدهم لا يَمْلِك نفسه من البُكاء إذا قَرأ القرآن، كالصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يُسمَع نَشِيجُه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يَمُرُّ بالآية في وِرْدِه من الليل فيَمْرَض منها ليالي يَعُودُونه، وكان تميم الداري يَتَقَلَّب على فِراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفًا من النار، ثم يقوم إلى صلاته، ويَكْفِينا في صفات الأولياء ما ذكره الله ـ تعالى ـ في صفاتهم في سورة الرعد، والمؤمنون، والفرقان، والذاريات، والطور، (قوله ـ تعالى ـ في سورة الرعد “19، 20″، (إنما يَتَذَكَّر أُولُو الألبابِ* الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ)… (الآيات إلى 24)، وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْر اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) “الرعد: 28 ـ 29″، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ..) “المؤمنون: 57 ـ 61 “، وقوله: (وِعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ علَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) “الفرقان: 63 ـ 76″، وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ …) “الذاريات: 15ـ 19″، وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ…) “الطور: 17 ـ 28). هذا، وفي القرآن الكريم من صفات المؤمنين كثير جدًّا، بل أكثر القرآن في وصف الإيمان وأهله، وهم أولياء الله الذين لا خَوْفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُون). فالمُتَّصِفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء، لا أهل الدعوى والكَذِب ومُنازَعة رب العالمين فيما اخْتَصَّ به من الكِبْرياء والعَظَمة وعِلْم الغيب، بل مُجَرَّد دعواه علم الغيب كُفْر. فكيفَ يكون المُدَّعي ذلك وَلِيًّا لله؟ ولقد عظُم الضرر واشتدَّ الخَطْب بهؤلاء المُفْتَرِين الذين وَرِثوا هذه العلوم عن المشركين، ولَبَّسوا بها على خفافيش القلوب. نسأل الله السلامةَ والعافِيَة في الدنيا والآخرة. (انظر فتح المجيد ص 298ـ300).

وبهذا اتَّفَق علماء الإسلام على مُطارَدَة الكِهانة والعِرافة والتنجيم والعِيافة وكل فنون السحر والشعْوذَة والتدجيل على عباد الله، واعتبار ذلك ممَّا يُضادُّ الإيمان بالله ـ تعالى ـ ويُعارِض الإسلام الذي يَحْتَرِم سُنَن الله في خَلْقِه، ونِظام الأسباب والمُسَبَّبات، ويُقَدِّر العقل العلمي القائم على المُشاهَدَة والتَّجْرِبة في الحِسِّيَّات والمادِّيَّات، وعلى البرهان في العقليات، وعلى التوثيق في النقليات. كما قال ـ تعالى ـ: (نَبِّؤُنِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأنعام: 143)، (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) (الأنعام: 148)، (إئْتُونِي بِكَتابٍ منْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف: 4) (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111)، وقد تكَرَّرت في القرآن الكريم.

ونَخْتِم هذا الفَصْل بدُعاء أبي الأنبياء خليل الله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السمَاءِ). (إبراهيم: 38 ).

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ). (إبراهيم: 40ـ41 ).