موضوع استحالة النجاسة موضوع قديم تكلم فيه الفقهاء القدامى، وعلى الرغم من ذلك ظهرت هذه المسألة في السنوات الماضية بعد اختلاط المسلمين بغيرهم من غير المسلمين في أوربا وأمريكا وغيرها من بلاد غير المسلمين، وبعد أن تقدم العلم وأصبحت شحوم الخنزير عنصرا أساسا في أشياء كثيرة يستعملها المسلمون بداية من الحلويات ومرورا بالمنظفات ومواد التجميل وغيرها، وانتهاء بالأمصال التي تكسب الإنسان المناعة من الإصابة بالأمراض كشلل الأطفال وغيرها.

والخنزير نجس بإجماع الفقهاء، وبالتالي تصور الناس أنه إذا وضع في أي شيء طاهر فإنه ينجسه، وهنا يأتي دور الفتوى في هذا العالم المفتوح لتوظيف التراث الفقهي القديم، والإفادة منه في رفع الحرج والمشقة عن عدد غير قليل من المسلمين في بلاد الغرب والشرق غير المسلم.

وخلاصة القول في هذه المسألة أن النجاسة سواء كانت خنزيرا أم غيره إذا استحالت إلى عنصر آخر بسبب المعالجة الكيميائية فإنها تتحول إلى شيء آخر غير نجس كما يحدث للخمر إذا تحولت إلى خل.

وكذلك مياه الصرف الصحي التي تعالج كيميائيا، وتكرر عدة مرات حتى تعود ماء خالصا خاليا من كل الشوائب العالقة به؛ فإنه يكون طاهرا مطهرا يصلح للشرب والوضوء والاغتسال وغيره.

فعلى الرغم من أن المسألة قديمة لكن التطبيقات الحديثة جعلت منها قضية حديثة تدخل في باب النوازل التي تحتاج إلى اجتهاد معاصر.

وقد عالج هذه المسألة فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الماتع فقه الطهارة وقد نقل أقوال المذاهب الفقهية المتعددة حول هذه المسألة فقال:

جاء في (البحر الرائق) من كتب الحنفية: من الأمور التي يكون بها التطهير: انقلاب العين… وإن كان في غيره – أي الخمر- كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا: يؤكل، والسرجين (فضلات الحيوان) والعذرة تحترق فتصير رمادا: تطهر عند محمد.

واتفق الحنفية على طهارة الخمر إذا تحولت إلى خل، سواء كان تحولها بنفسها أم بغيرها.

ومذهب المالكية المفتى به كمذهب الحنفية في ذلك؛ أعني: المفتى به عندهم من قول محمد، وما روي عن أبي حنيفة أيضا.

وكذلك مذهب الظاهرية الذين يمثلهم أبو محمد ابن حزم، وله كلام قوي في (المحلّى) يؤيد به تغير الحكم بانقلاب العين واستحالتها.

وأشد المذاهب في رفض التطهير بالاستحالة مذهب الشافعية، الذين يستصحبون حكم النجاسة والحرمة على العين، وإن انقلبت وتحولت إلى شيء آخر، باسم آخر، ووصف آخر، فيما عدا الخمر إذا تخللت بنفسها، بدون تدخل أو معالجة من الإنسان، وجلد الميتة إذا دبغ، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وقول في مذهب مالك.

وحجتهم في تميز الخمر عن غيرها أن الخمر استحالت عن شيء طاهر كالعنب وغيره، فإذا انقلبت إلى خل، فقد عادت إلى الأصل فطهرت.

وهم في ذلك جد مخطئون؛ فإن كل الأعيان النجسة مستحيلة عن أعيان طاهرة؛ فقد بينا أنه تعالى خلق كل الأشياء طاهرة، ولذا نجد البول والعذرة -وهما النجسان المتفق عليهما- قد استحالا من الطعام والشراب الطاهرين.

وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة أيضا.

وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية ما ذهب إليه الحنفية والمالكية، فقال: وهذا هو الصواب المقطوع به؛ فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم، لا لفظا ولا معنى؛ فليست محرمة، ولا في معنى التحريم، فلا وجه لتحريمها، بل تتناولها نصوص الحل، فإنها من الطيبات، وأيضا في معنى ما اتفق على حله؛ فالنص والقياس يقتضي تحليلها، وعلى هذا استحالة الدم أو الميتة أو لحم الخنزير، وكل عين نجسة استحالت إلى عين ثانية.

ورد ابن تيمية على من فرق بين الخمر وغيرها من النجاسات فقال: هذا الفرق ضعيف؛ فإن جميع النجاسات نجسة بالاستحالة، فإن الدم مستحيل من أعيان طاهرة، وكذلك العذرة والبول والحيوان النجس مستحيل عن مادة طاهرة مخلوقة، وأيضا فإن الله تعالى حرم الخبائث لما قام بها من وصف الخُبث، كما أباح الطيبات لما قام بها من وصف الطيب، وهذه الأعيان المتنازع فيها ليس فيها شيء من وصف الخبث، وإنما فيها وصف الطيبات أ.هـ باختصار وتصرف.

اللقاح المستعمل في تطعيم الأطفال ضد الشلل:

وقد أجاب المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء عن اللقاح المستعمل في التطعيم ضد شلل الأطفال الذي يُستحضر بالفيروس المسبب له على مزرعة نسيجية أي مؤلفة من خلايا متكاثرة بحيث تشكل نسيجا خلويا تكون فيه الخلايا متلاصقة. وحتى ينجح الزرع، لا بد من فكّ هذه الخلايا بعضها على بعض. ويتم هذا التفكيك باستعمال خميرة (أنزيم) تدعى (التريبسين) تؤخذ من الخنزير.

نظر المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء في الموضوع أعلاه، وبعد التدقيق في مقاصد الشريعة، ومآلاتها والقواعد الفقهية وأقوال الفقهاء فيما عُفي عنه قرر ما يلي:

أولا:إن استعمال هذا الدواء السائل قد ثبتت فائدته طبيا وأنه يؤدي إلى تحصين الأطفال ووقايتهم من الشلل بإذن الله تعالى، كما أنه لا يوجد له بديل آخر إلى الآن، وبناء على ذلك فاستعماله في المداواة والوقاية جائز لما يترتب على منع استعماله من أضرار كبيرة، فأبواب الفقه واسعة في العفو عن النجاسات – على القول بنجاسة هذا السائل – وخاصة أن هذه النجاسة مستهلكة في المكاثرة والغسل، كما أن هذه الحالة تدخل في باب الضرورات أو الحاجيات التي تنزل منزلة الضرورة، وأن من المعلوم أن من أهم مقاصد الشريعة هو تحقيق المصالح والمنافع ودرء المفاسد والمضار.

ثانيا: يوصي المجلس أئمة المسلمين ومسئولي مراكزهم أن لا يتشددوا في مثل هذه الأمور الاجتهادية التي تحقق مصالح معتبرة لأبناء المسلمين ما دامت لا تتعارض مع النصوص القطعية.

الأدوية التي تشتمل على الكحول أو المخدرات :

إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في المدة من 21-26/10/1422ه- الذي يوافقه من: 5-10/1/2002م، وبعد النظر في الأبحاث المقدمة عن الأدوية المشتملة على الكحول والمخدرات، والمداولات التي جرت حولها، وبناء على ما اشتملت عليه الشريعة من رفع الحرج، ودفع المشقة، ودفع الضرر بقدره، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وارتكاب أخف الضررين لدرء أعلاهما، قرر ما يلي:

(1) لا يجوز استعمال الخمرة الصرفة دواء بحال من الأحوال؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ لم يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّم عَلَيْكُمْ . رواه البخاري في الصحيح.

ولقوله: “إنَّ اللهَ أنزَل الدَّاءَ وجعَل لِكُلِّ داءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، ولا تَتَدَاوَوْا بحَرَامٍ”. رواه أبو داود في السنن، وابن السُّني، وأبو نعيم.

وقال لطارق بن سويد، لما سأله عن الخمر يُجعَلُ في الدواء: “إنَّ ذلك لَيْسَ بِشِفَاءٍ، ولَكِنَّه دَاءٌ”. رواه ابن ماجه في سننه، وأبو نعيم.

(2) يجوز استعمال الأدوية المشتملة على الكحول بنسب مستهلكة تقتضيها الصناعة الدوائية التي لا بديل عنها، بشرط أن يصفها طبيب عدل، كما يجوز استعمال الكحول مطهرًا خارجيًّا للجروح، وقاتلا للجراثيم، وفي الكريمات والدهون الخارجية.

(3) يوصي المجمع الفقهي الإسلامي شركات تصنيع الأدوية، والصيادلة، في الدول الإسلامية، ومستوردي الأدوية، بأن يعملوا جهدهم في استبعاد الكحول من الأدوية، واستخدام غيرها من البدائل.

(4) كما يوصي المجمع الفقهي الإسلامي الأطباء بالابتعاد عن وصف الأدوية المشتملة على الكحول ما أمكن.

طهارة مياه الصرف بعد معالجتها وتخليصها من الشوائب:

فيقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق – رئيس لجنة تحقيق التراث بالكويت -: قد ثبت قول النبي – صلى الله عليه وسلم – ” الماء طهور لا ينجسه شيء “، رواه أحمد وصححه، وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، وهذا الحديث من أعلام نبوة النبي – صلى الله عليه وسلم – فإن الماء في ذاته وخاصيته طهور أبدا، وهو يزيل النجاسة من الماء ويحملها، ولكنه لا يتغير بها تركيبه الكيميائي، ولذلك فإنه متى فصلت النجاسة عن الماء، عاد الماء كما كان طهورا لا ينجسه شيء.

والماء لا ينجس في ذاته، ولا يستحيل نجسا، وإنما تتغير صفاته بما يحمله من نجس فيكون نجسا لحمله النجاسة، ويكون طاهرا إذا حمل شيئا طاهرا كالملح والطين والسكر والروائح الطاهرة وعصارات الأعشاب..الخ.

– إذا عولج الماء النجس وفصلت منه النجاسة فصلا كاملا عاد طاهرا مطهرا كأصل خلقته. وإذا بقيت فيه نجاسة بعد المعالجة فالحكم عليه بحسب غلبة النجاسة، فإن كانت بقايا النجاسة مغيرة لإحدى صفاته الثلاث: اللون أو الطعم أو الرائحة، فإنه يبقى نجسا ً، وإن تمت المعالجة حتى يعود الماء كما هو في أصل الخلقة فهو طهور. وإن  بقي به نجاسة يسيرة لا تغير أوصافه فهو من العفو إن شاء الله تعالى أ.هـ باختصار وتصرف.