كلُّ ما يُكتشف مِن نتائجِ البحث العلميِّ ما دامَ لا يُصادمُ نَصًّا مِن كتابِ اللهِ ولا سُنة رسولِه ، ولا يدخل في دائرة ما حرَّم اللهُ ورسوله ، ولا يضر بالإنسان ؛ فلا مانعَ منه شرعًا.
يقول الأستاذ الدكتور / نصر فريد واصل ، مفتي مصر السابق:
يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ في كتابه الكريم: (سنُريهمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفسِهم حتى يَتبيَّنَ لهمْ أنه الحقُّ أوَ لمْ يَكْفِ برَبِّكَ أنَّهُ على كلِّ شيءٍ شهيدٌ. أَلَا إنَّهمْ في مِرْيَةٍ مِن لِقاءِ رَبِّهمْ أَلَا إِنَّهُ بكُلِّ شيءٍ مُحيطٌ) (فصِّلت: 53 ـ 54).
في هاتينِ الآيتَينِ يُبيِّن الله تعالى العلاماتِ الدالَّة على وَحدانيَّته وقُدْرته في أقطار السمواتِ والأرض، من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والنبات والأشجار، وفي النفس من لَطيف الصَّنْعة وبَديعِ الحِكمة ما يَدلُّ على عَظمة الصانع وقُدرته وعطائه الدائم المُستمر المُتجدِّد الذي لا يَنتهي.
ففي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ تَدُلُّ علَى أنهُ الواحِدُ
فمِن لُطفِ اللهِ بالإنسان أنه قبْلَ أن يَستقدمه إلى هذا الوُجود ، ويَستدعيَه ويَجعله خليفتَه فيه أوجدَ له كل مُقوماتِ حياته ممَّا لا غِنَى له عنه ، وأعْلَمه بالأشياء كلِّها وبأسمائها قبل أن يُهبطَه إلى الأرض، يقول تعالى: (وعلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كلَّهَا..) إلى قوله تعالى: (.. قالَ يا آدمُ أنْبِئْهُمْ بأَسْمَائِهِمْ).
وجهَّزَه بما يَستطيع أن يُدركَ به حقائقَ الأشياء ويُميِّزَ به بين خيرِها وشرِّها، وهو العقل الذي فضَّله به على سائر خلْقه (ولقدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدمَ وحَمَلْناهُمْ في البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْنَاهمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهمْ علَى كَثيرٍ ممَّن خَلَقْنَا تَفْضيلًا) (الإسراء: 70).
ثم أمَره أن يَسعى ويَجِدَّ في الأرضِ ويبحثَ فيها ليُحصِّلَ رزقَه (فَامْشُوا في مَناكِبِهَا وكُلُوا مِن رِزْقِهِ وإليهِ النُّشُورُ) (الملك: 15) وطلَب منه أن يَنظرَ في الكونِ الفَسيحِ المُحيط به ويَتأمَّلَهُ ليَصلَ بعقله إلى وحدانية الخالق وجميلِ صُنْعِهِ، ويَستخرجَ من الأرض والبحار والأنهار وغيرها كُنوزها المُستقرة في أعماقِها الدالَّة على عظَمة الصانع وقُدرته. وكلُّ ما يَظهر للإنسان مما كان خافيًا عنه على مرِّ الأيام والعُصور إنما هو دليلٌ على وُجود الله وقُدرته وأن ذلك من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، وصدَق الله إذ يقول: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ).
ومِن هنا كان البحثُ والسعْيُ مِن أوْجَبِ واجباتِ الإنسانِ، وكان تَكريمُ اللهِ للعلْمِ والعلماء بلا حُدود، وجعلَ اللهُ العلماءَ أهلَ خشيتِه وشُهداءَه على وَحدانيَّتِهِ (إنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبادِهِ العلماءُ) (شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلهَ إلا هوَ والملائكةُ وأُولُو العلْمِ قائمًا بالقِسْطِ لا إله إلا هوَ العَزيزُ الحَكيمُ).
وبيَّن الرسول ـ ﷺ ـ أن العلماءَ ورثةُ الأنبياء، فقال: “العلماءُ وَرَثةُ الأنبياءِ. ويقول: “لَمَجلسُ علْمٍ أفضلُ عندَ اللهِ مِن عبادةِ سبعينَ عامًا”. مما يدلُّ على شرَف العِلْمِ والعلماء ووُجوب تَوقيرهم واحترامهم.
ومِن هذا المُنطلق بدأت دولُ العالم كلِّه تَتَّجِهُ إلى البحث والنظر في أرجاء الكون للكشْف عن أسراره وكُنوزه على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم وأسالِيبهم في البحث والتنقيب، فمِنهم مَن اتَّجَهَ إلى الآفاق حتى وصَلَ إلى الكواكب والنجوم يُريد معرفة ما أودعه الله فيها من أسرار، ومنهم مَن بحَث في البحار والأنهار وغاصَ في أعماقها لاستخراجِ لَآلِئِهَا ومُرجانِها وفكّ شَفْرَتِها ورُموزها، ومنهم مَن أخَذ يَنكُتُ الأرضَ تحتَ قدَميْهِ لتكونَ له الغلَبة عليها، والكلُّ يَنضوِي تحت لواء (قُلِ انْظُرُوا ماذا في السمواتِ والأرضِ).
وكلمَّا تقدَّم الزمانُ تقدم العِلم وازدهرَ وتقدمت وسائلُه وكشَف لنا أسرارًا كانت في طيِّ الكتمان، وفُوجِئَ العالَم في هذا العصر بما لم يكن معروفًا من قبلُ كالطائرات والقطارات والصواريخ والتليفزيون والكمبيوتر والإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، التي وُجدت واستُحدِثتْ في هذه الأيام، ثم الهندسة الوراثية والاستِنْساخ والجِينات وغير ذلك من نِتاج العقل البشريِّ واجتهادات العلماء والباحثِينَ، وكلُّها تَدُور في فلَك قوله تعالى: (سنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهمْ). ولسوف يأتي زمانٌ يَسمع فيه الناس ما لا يُصدِّقُونهُ ويُعدُّ دليلًا على تَجدُّدِ الفكْر والبحث المَخلوقَينِ بالقدرة الإلهيَّة.
ومِنَ المعلوم أن الدِّينَ لا يُصادم العِلم ولا يُعارض الحقائقَ العلميَّة ولا يُضيِّق على العقل ولا يَحجُر عليه، بل إن الدِّين جاء يُخاطب العقلَ ويَحترمه (إنَّ في خلْقِ السمواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ لآياتٍ لأولِي الألْبابِ) أي أصحاب العقول، ويَطلب منه أن يبحث ويَستنبط ويَكشف ويَستخرج ما في الكون من حَقائقَ وعجائبَ وأسرارٍ.
فإنْ كان ما يُكتشف ويَظهر من نتائج البحث العلميِّ لا يُصادم نصًّا مِن كتاب الله وسُنة رسوله ـ ﷺ ـ ولا يَدخل في دائرة ما حرَّم اللهُ ورسوله ، ومنها الإضرار ، فلا مانعَ منهُ شرعًا أخْذًا من قوله تعالى: (قُلْ مَن حرَّمَ زِينَةَ اللهِ التي أخرَجَ لعِبادِهِ والطيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ للذينَ آمَنُوا في الحياةِ الدُّنيَا خالِصةً يومَ القِيامةِ) ولا يُعدُّ تَدخُّلًا في خلْقِ اللهِ ؛ لأن الله خالِقُ الأشياء كلِّها قديمِها وحدِيثِها هو الذي وفَّق العلماء إلى البحْث عن الهندسة الوراثية وكشَف لهم قدرتَه الخارِقة ، وعليهم أن يستخدموها لخدمة البشرية دون الإضرار بها .