أفتى جمع من العلماء بجواز إجهاض المرأة التي يضر الحمل بها، سواء كان إضراره بها في بقائه في رَحِمِها أو عند ولادته، بل إن منهم من أوجبه ولو كان بعد نفخ الروح في الجنين ، وذلك لتعلُّق حقوق غير هذا الجنين بها ، ولأنها أصله ، وقد استقرت حياتها بخلافه ، ومن ثَمّ كان القولُ بإجهاضه في هذه الحالة وإن نُفخت فيه الروحُ دفعًا لأعظمِ المفسَدَتَين بارتكاب أخفِّهما.

يقول أ.د.عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر:

حافظت الشريعة الإسلامية على الجنين في جميع مراحل تخلُّقه، وقت أن كان مجردَ نطفة إلى أن يُنفخ فيه الروح ويولد، وجعلت الاعتداء عليه في أية مرحلة من مراحل التخلق موجِبًا لإثم المتسبِّب في الاعتداء، ولو كان الأبَوَين، هذا بالإضافة إلى تضمينه، وما قد يوجبه الإجهاض من الاقتصاص من الجاني؛ إذ كان اعتداؤه على الجنين بعد نفخ الروح فيه عمدًا عدوانًا، كما هو مذهب بعض الفقهاء.

إلا أن ثَمّةَ حالات تَقتضي إجهاضَ المرأة الحامل كنوع من العلاج لها للمحافظة على حياتها أو صحتها ضد خطر مُحدِق بها، من جَرّاء الحمل أو الولادة، ومن بين هذه الحالات المتعلقة بالمرأة الحاملِ أمراضُ الكُلَى المزمنة، وأمراضُ القلب والدم والاستقلاب، وأمراضُ الجهاز التنفسيّ ونقصِ أو اضطرابِ جهاز المناعة، والأمراضُ الخبيثة، والأمراضُ المتعلِّقة بالحمل والولادة، والأمراضُ الخِلْقية في الأم، التي تجعل الولادة متعسِّرة أو نحو ذلك.

وقد أفتى جمع من العلماء بجواز إجهاض المرأة التي يضر الحمل بها، سواء كان إضراره بها في بقائه في رَحِمِها أو عند ولادته، بل إن منهم من أوجبه ولو كان بعد نفخ الروح في الجنين، دفعًا لأشدِّ الضررَين بارتكاب أخفِّهما.

قال فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق :

“إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاءه بعد تحقق حياته يؤدي لا محالة إلى موت الأم فإن الشريعة الإسلامية بقواعدها العامة تأمر بارتكاب أخفِّ الضررَين. فإذا كان في بقائه موتُ الأم وكان لا مُنقِذَ لها سوى إسقاطه كان إسقاطُه في تلك الحالة متعيِّنًا. ولا يُضحَّى بها في سبيل إنقاذه؛ لأنها أصله، وقد استقرت حياتها، ولها حظ في الحياة، ولها حقوق وعليها حقوق، وهي بعد هذا عماد الأسرة، وليس من المعقول أن نضحيَ بها في سبيل الحياة لجنين لم تَستقل حياته، ولم يَحصل على شيء من الحقوق والواجبات”.

وقال فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر سابقاً :

“إذا قامت ضرورة تحتِّم الإجهاض، ورأى الأطباء المختَصُّون أن بقاء الحمل في بطنها ضارّ بها، فعندئذٍ يجوز الإجهاض، بل يجب إذا كان يتوقف عليه حياة الأم، عملًا بقاعدة (ارتكاب أخفِّ الضررَين وأهونِ الشرَّين) ولا مِرَاءَ في أنه إذا دار الأمر بين موت الجنين وموت أمه كان بقاؤها أَوْلَى؛ لأنها أصله، وقد استقرت حياتها، ولها حظّ مستقلّ في الحياة، كما أن لها وعليها حقوقًا، فلا يُضحَّى بالأم في سبيل جنين لم تَستقلّ حياته ولم تَتأكد”.

وممن رأى جوازَ إجهاض الجنين ـ ولو بعد نفخ الروح فيه، إذا كان بوضع يهدد حياة المرأة الحامل ـ د/ محمد سلام مدكور ، د/ عبد الرحمن النجار ، د/ يوسف القرضاويّ ، وغيرهم .

وجاء في التقرير النهائيّ لمؤتمر الرباط 1971م:

“وفي أمر الإجهاض استعرَض المؤتمر آراء فقهاء المسلمين، فتبيَّن أنه حرام بعد الشهر الرابع، إلا لضرورة مُلِحّة، صيانةً لحياة الأم. أما قبل ذلك، فرغم وجود آراء فقهية متعددة فإن النظر الصحيح يتجه إلى منعه في أي دور من أدوار الحمل، إلا للضرورة الشخصية القصوى؛ صيانةً لحياة الأم”.

وباستعراض ما ذكره العلماء من شروط لجواز إجهاض الحامل حفاظًا على حياتها أو صحتها، نجد أنهم اعتبَروا الشروط التالية:

قيام الضرورة التي تحتِّم الإجهاض، بأن كان بقاءُ الجنين في رحم الأم يهدد حياتها أو يضر بصحتها.

أن يثبُت قيامُ هذه الضرورة من طريق موثوق به، فلا تكون متوهَّمة.

أن يُتيقَّن من أن بقاء الجنين يهدد حياة الحامل أو يضرّ بصحتها، وأن هذا الخطر لا يزول عنها إلا بإجهاض الجنين.

أن يقرِّر ضرورةَ الإجهاض لإنقاذ حياة الأم أو المحافظة على صحتها أطباءُ متخصِّصون، ولما كان هؤلاء يَتوقف على تقريرهم حكمٌ شرعيّ فيُشترَطُ فيهم أن يكونوا عدولاً حاذِقِين في الطب، وألاّ يقل عددهم عن اثنين، كما قال ابن حجر الهيثميّ.

والذي نراه هو جواز إجهاض المرأة التي يضر بها الحمل ضررًا بيِّنًا لا يمكن معه استدامةُ بقائه إلى الولادة، كأن كان بقاءُ الجنين يهدد حياتها أو صحتها، ولم يمكن التغلب على ذلك بالمداواة وغيرها مع بقاء الحمل، ولو كان هذا الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين، إذا توافرت الشروط السابقة. وإن كان المنقولُ عن بعض الحنفية مَنْعَه في هذه الحالة لعدم ورود نص شرعيّ يبيح قتل نفس لإحياء نفس أخرى .

ولكن يُرَدّ على هذا بأن نصوص الشريعة وإن لم يَرِدْ فيها ما يُفيد هذا صراحةً إلا أنه ورد فيها النهي عن الاقتصاص من الوالد لولده، فقد رُوي عن ابن عباس أن النبي  ـ ـ قال: “لا يُقاد الوالدُ بولده” وذلك لأن الوالد كان سببًا في وجود الولد فلا يكون الولد سببًا في عدمه، وهذا يَقتضي مَنْعَ التضحية بالوالد من أجل حياة الولد. يُضاف إلى هذا أن في بقاء الجنين في رحم الأم مفسدةً إن كان بقاؤه يضرّ بصحتها أو يُودي بحياتها، وفي إجهاض الجنين مفسدةٌ كذلك، ولا يمكن دَرْءُ المفسَدَتَين في نفس الوقت، إذا تعذر استبقاءُ الجنين ومعالجةُ الحامل من الأضرار التي يسببها بقاءُ الحمل في رحمها، فالواجب في هذه الحالة دفعُ أعظمِ المفسَدَتَين بارتكاب أخفِّهما، وَفقًا لما تَقضي به قواعد الفقه الكلية .

ولا شك أن الضرر الذي يَحيق بالأم في حال استبقاء الجنين مفسدتُه أعظمُ من مفسدة إجهاضه إن كان بقاؤه يضرّ بها؛ وذلك لتعلُّق حقوق غير هذا الجنين بها، ولأنها أصله، وقد استقرت حياتها، بخلافه، ومن ثَمّ كان القولُ بإجهاضه في هذه الحالة وإن نُفخت فيه الروحُ دفعًا لأعظمِ المفسَدَتَين بارتكاب أخفِّهما.