الإسلام يحثنا على العمل، وألا يكون المسلم عالة على أحد بل إن أفضل الكسب كسب المرء من عمل يده، ولكن لا بد من مراعاة أخلاق الإسلام وآدابه حتى لا تشيع الفوضى الأخلاقية واستباحة الحرمات من أجل كسب المال، ومن ثم فالشارع قد وضع ضوابط عامة من أجل الكسب الحلال، منها تحريم الغش والخداع كما حرم كل ما فيه غرر أو مقامرة، أو العمل في أعمال محرمة كالتجارة في الخمور ونحوها أو فيما هو محرم من الرقص والغناء،و غير ذلك .
يقول فضيلة الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة -أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين-:
إن المسلم ينطلق في حياته من عقيدته الإسلامية وأنه عبد لله سبحانه وتعالى ملتزم بشرعه، فالإسلام لا يعطي الفرد الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء، وكيفما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي.
إن الحرية المطلقة رذيلة ممقوتة حيث إنها تؤدي بالإنسان إلى الشرود، والجموح، والانفلات من جميع القيم والمبادئ .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله : [ إن الحرية التي شرعها الإسلام في مجال الاقتصاد ليست حرية مطلقة من كل قيد كالحرية التي توهمها قوم شعيب ( أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) بل هي حرية منضبطة مقيدة بالعدل الذي فرضه الله تعالى .ذلك أن في الطبيعة الإنسانية نوعاً من التناقض خلقها الله عليه لحكمة اقتضاها عمران الأرض واستمرار الحياة، فمن طبيعة الإنسان الشغف بجمع المال وحبه حباً قد يخرجه عن حد الاعتدال، كما قال تعال في وصف الإنسان: ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )، وكما صوّر الرسول ﷺ مدى طمع الإنسان بقوله :( لو كان لابن آدم واديان من تراب لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملاً جوف ابن آدم إلا التراب ) متفق عليه.
ومن طبيعة الإنسان الشح والحرص كما قال تعالى :( وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ) ، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ) وقال الرسول عليه الصلاة والسلام :( يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان : الحرص ، وطول الأمل ) رواه البخاري .
ومن طبيعته حب الخلود إن لم يكن بنفسه فبذريته من بعده وحب الاستعلاء والسيطرة على الآخرين وهاتان الغريزتان كانتا الأحبولة التي أوقع إبليس بها آدم أبا البشر في شرك المخالفة بالأكل من الشجرة :( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ) أ.هـ.
إذا تقرر هذا فإن الإسلام حث على العمل والسعي في الأرض للكسب ، قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) سورة الملك الآية 15 . وقال تعالى :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ) سورة البقرة الآية 168.
وقد وضع العلماء أصولاً وضوابط لما يحل ويحرم في باب المعاملات فمن هذه الضوابط والأصول: تحريم الربا فهو محرم بنص كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ ، قال تعالى :( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأؤلئك أصحَابُ النّارِ هُمْ فِيْها خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) سورة البقرة الآيتان 275- 276 .
وقال ﷺ :( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء ) رواه مسلم.
ويترتب على تحريم الربا تحريم العمل في البنوك الربوية مهما كان العمل لأن العمل فيها إما إعانة على الربا أو رضىً بهذا العمل المحرم وكلاهما ممنوع شرعاً . يقول الله تعالى :( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) سورة المائدة الآية 2 . ويدخل في ذلك تأجير المحلات والمباني للبنوك الربوية فهو حرام لما سبق من أنه تعاون على الإثم والعدوان .
ومن هذه الضوابط تحريم كل معاملة فيها غش، وخداع، وقد ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال :( من غشنا فليس منا ) رواه مسلم . فهذا الحديث عام، ويشمل المعاملات كلها، والعمل كذلك .
وصور الغش والخداع في زماننا كثيرةٌ جداً وخاصة في التجارة والأعمال المختلفة فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1- بيع المواد الفاسدة و المنتهية الصلاحية .
2-التلاعب في الأوزان كأن يكتب على العبوة وزن معين ثم لا يكون وزنها في الحقيقة كذلك .
3- تسويق بضاعة رديئة على أنها بضاعة جيدة وذلك بوضع العلامة التجارية للبضاعة الجيدة على الرديئة.
4-بيع المواد الضارة بالصحة والتي تسبب الأمراض المستعصية .
5- وصف مكونات المواد المصنعة بأوصاف غير حقيقية .
6- الغش في تنفيذ المقاولات وأعمال البناء مثل تقليل الحديد والإسمنت في البنايات مما قد يتسبب في انهيار المبنى ومقتل سكانه أو إصابتهم بأذى .
ومن الضوابط التي تحكم عالم التجارة والعمل تحريم الاتجار والعمل بالمحرمات سواء كان ذلك بانتهاك محرم أو ترك واجب . يقول الله تعالى :( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) سورة المنافقون الآية 9 .
ومن صور الاتجار في المحرمات وكذا العمل فيها : التجارة في الخمر بمختلف أسمائها وكذا العمل في صناعتها والعمل في قطف العنب لتصنيعها وبيع العنب لمن يعصره خمراً .
وقد صح في الحديث من قول الرسول ﷺ :( إن الله تعالى حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) رواه بالبخاري ومسلم . وجاء في الحديث :( أن النبي ﷺ لعن الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وآكل ثمنها ) رواه أبو داود والحاكم وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/907 .
ويلحق بتحريم الاتجار بالخمر الاتجار بالمخدرات والسموم القاتلة كالهيروين والأفيون والحشيش ومن الصور المحرمة المتاجرة في الأفلام الساقطة الخليعة والصحف والمجلات التي تنشر الفحشاء والمنكر وكذا العمل في طباعتها وطباعة أي مادة تحارب الله ورسوله ودينه .
ومن صور الأعمال المحرمة الأعمال التي يجبر فيها الإنسان على ترك الفرائض، كمن يعمل في مصنع ويمنع من أداء الصلاة المفروضة في وقتها فهذا عمل محرم، وكذا العمل الذي تكون فيه خلوة محرمة شرعاً كعمل السكرتيرة في مكتب المدير أو المحامي أو الطبيب إذا وجدت الخلوة المحرمة .
وكذا العمل الذي يقتضي أن تتخلى المرأة المسلمة عن لباسها الشرعي المفروض . وكذا العمل الذي تنتهك فيه المحرمات كعمل الراقصات والمغنيات والممثلات ومن يشاركهن في ذلك من الرجال والنساء، كالمصورين، والمخرجين وغيرهم ، إن كان العمل خارجا عن ضوابط الشرع الحنيف ، فهذا العبث الذي يسميه الناس في زماننا فناً والمتضمن انتهاك المحرمات كالعري والتقبيل والمعاشرة الجنسية، وإن لم تكن تامة كل ذلك من المحرمات ويمنع ترويج وبيع هذه الأفلام، والأشرطة أو تأجيرها، أو الإعلان عنها، وغير ذلك .
ومن الأعمال المحرمة الحفلات الغنائية المختلطة وما يصاحبها من رقص ماجن وعري وتهتك . ومن الأعمال المحرمة الاشتغال بعمل أو وظيفة من شأنها الإعانة على ظلم أو حرام فهي حرام كمن يشتغل في عمل ربوي أو محل للخمر أو في مرقص أو ملهى أو نحو ذلك .
وكذلك العمل في وظيفة تلحق الضرر والأذى بالمسلمين سواء كان الضرر أو الأذى مادياً أو معنوياً . ومن الأعمال المحرمة المتاجرة بالمواد المسروقة والمغصوبة وهي التي أخذت من أصحابها بغير رضا كالمواد التي تصادر من الناس ظلماً وعدواناً .
ومن الضوابط في هذا المجال تحريم المعاملات التي فيها غرر وخطر كالقمار الذي هو الميسر ، قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) سورة المائدة الآيتان 90-91 . وكذلك اليانصيب المسمى زوراً وبهتاناً باليانصيب الخيري فكل ذلك حرام.
وأخيراً لا يظنن أحد أن فيما تقدم من المحرمات تضييقا لموارد الرزق على الناس بل إن طرق الكسب الحلال مفتوحة وهي أكثر من أن تعد وتحصى.