العلماء لا يتحكَّمون في الطبيعة بقَدْر ما يُحاكون ظواهرها، ومباشرة الإنسان إياها لا يتعارَض إطلاقًا مع إرادة الله في كونه، فإرادة الله في الخلْق والإيجاد هي التي تكون ما يُسَمَّى بالقوانين الطبيعية، ونسبة الظواهر الطبيعية إلى قوانينها لا يمنع مردَّها أخيرًا إلى الإرادة الإلهية في تكوينها.

يقول الدكتور محمد البهي ، عميد كلية أصول الدين الأسبق -رحمه الله- :

-إن ما ورد في القرآن في هذه الآية قول الله ـ تعالى ـ : (اللهُ الذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشَاءُ ويَجْعَلُهُ كِسَفًا (أي قِطَعًا) فَترَى الوَدْقَ (أي المطر) يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِه إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرونَ. وإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسينَ “أي يائسين”) (الروم: 48 ـ  49).

-ثم في قوله كذلك: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحابًا “أي يسوق” ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكامًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ويُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ “من مرتفع” مِنْ جِبالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ ويَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) (النور: 43). إن ما ورد في القرآن من مِثْل هذه الآيات يُمَثِّل ظاهرة طبيعية، أي من ظواهر هذه الطبيعة الأرضية.

فالرياح عامل أساسي في تجميع السحاب والتقاء بعض قِطَعِه مع بعض، وعامل كذلك في دفعه وتحريكه إلى أن يَسقُط على الأرض بفِعْل المُرْتَفَعات أو بفعل الحرارة في الوِهاد والمُنْخَفَضات. وإذ يسقط، يسقط على شكل رذاذ، وهو ما نُسَمِّيه بالمطر، وطبعًا إذا أصاب الأرض طَلَّ ـ وهو الرَّذاذ الخفيف ـ أو أصابَها مطر ازدَهَر ما فيها من أشجار ونبات وازَّيّنت ولَبِست حلّةً خضراء، بعد ما كانتْ جرداءَ أو ميّتة.

وهذه الظاهرة وإن كانت طبيعية، أي ترتَبِط مراحلها وحلقاتها بأسباب يُشاهد وجودها في الطبيعة التي نعيش فيها، إلا أن هذا الارتباط وتوالي حلَقاته أو مراحله هو من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وَفْق إرادته وحِكْمته. فإرادة الله في الخلْق والإيجاد هي التي تكون ما يُسَمَّى بالقوانين الطبيعية، كما هي نفسها التي تُؤَصِّل الظاهرة الاجتماعية وما يتعلَّق بالمجتمع البشري في قيامه أو فنائه. ونسبة الظواهر الطبيعية إلى قوانينها لا يمنع مردَّها أخيرًا إلى الإرادة الإلهية في تكوينها.

والعلماء لا يتحكَّمون في الطبيعة، بقَدْر ما يُحاكون ظواهرها بعد أن يدرسوا هذه الظواهر وأسبابها والترابُط بين أجزاء الظاهرة الواحدة. فهم في ظاهرة الغيوم والضباب أو السحاب ـ بعد أن وقفوا على أسباب تجمُّعها أو تفرُّقها، أو بعبارة أخرى بعد أن وقفوا على عوامل سقوط المطر وعدم سقوطه ـ يُمكِنُهم أن يُحدثوا من عوامل التحريك كالموجات الصوتية القويّة ما يفرِّق السحاب أو يُطارده إلى أعلى فلا يُسقِط مطرًا، ويكون الجو عندئذٍ غير مُمطِر، ويمكنهم كذلك أن يُحدثوا من هذه العوامل ما يجمع السحاب بحيث يلتقي بعضه ببعض، في بعض المواقع، ثم يسلِّطوا عليه بعض العوامل الكهربائية فيسقط رذاذًا أو مطرًا في هذه المواقع، ويكون الجو بذلك ممطرًا.

وهذه المحاولات التي يُحاكيها العلماء في شأن المطر مما يسمُّونه “تحكُّمًا” وإن كانت حتى الآن في نطاق ضيِّق إلا أنها ممكِنة، ومباشرة الإنسان إياها لا يتعارَض إطلاقًا مع إرادة الله في كونه؛ لأن الإرادة الإلهية هي تلك القوانين الطبيعية والاجتماعية نفسها. والإنسان ذاته مطالَب بالوقوف عليها وتعلُّمها.

وشأن هذه القوانين في وُجوب دراستها والوقوف عليها ومُحاكاتها لخير البشرية، شأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيما يصف به نفسه من صفات لعباده. فالله ـ جَلَّ شأنُه ـ لم يصف ذاته بكل تلك الصفات إلا ليضع أمام الإنسان الذي يُؤمن به ويتجه إليه بعبادته نموذجًا للوقوف عليه ثم محاكاته حتى يتطور وجوده إلى أكمل وإلى ما هو أكثر خيريّة.

فلم يصف نفسه بالعلم، وبالحياة، وبالخالقيّة، وبالغنى مثلاً إلا ليحمل مَن يعبده على أن يتدبر في هذه الصفات ثم يُحاكيها:

فيسعى إلى المعرفة، والمعرفة اليقينية.

ويسعى إلى الحياة، والحياة الخالدة.

ويسعى إلى الفعل، والفعل المبدِع.

ويسعى إلى الغنى، والغنى الذاتي المُمَثَّل في القناعة أولاً… وهكذا

والذين لا يقفون على الطبيعة وعلى القوانين التي تحمل ظواهرها، وكذلك الذين يعبدون الله وهم في غفلة عن محاكاة ما له من صفات، أو في عُزْلة تامة عن إدراك هذه الصفات والتأثُّر بها في حياتهم.. لا يعرفون الله على حقيقته ولا يقتربون إليه في سعيِهم.