الأصل أن الإنسان إذا مات انقطع عمله وطويت صحيفته فلم يعد يكتب له فيها شيء من الأجر والحسنات، إلا أن لهذا الأصل استثناءً، فقد ينتفع الميت بعمل الحي حيث يصيبه شيء من ثواب عمل الحي كما في الحديث المشهور، وقد اختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن للميت:

وسنبيِّنه على الوجه التالي:
أ- قال الإمام النووي: “والمشهور في مذهبنا -أي مذهب الشافعي- أن قراءة القرآن للميت لا يصله ثوابها. وقال جماعة من أصحابنا: يصله ثوابها. وبه قال أحمد بن حنبل. (صحيح مسلم بشرح النووي ج7ص90).

ب – وفي “المغني” لابن قدامة الحنبلي في الاحتجاج لوصول ثواب قراءة القرآن للميت قوله: “وهذه أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب، لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية قد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها، فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرأون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير” (المغني ج2 568)

ج- وقد صرح الحنفية بانتفاع الميت بإهداء ثواب قراءة القرآن له، فقد جاء في “الدر المختار ورد المحتار”: “ويقرأ سورة (يس) لما ورد: من دخل المقابر فقرأ سورة (يس) خفف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات” (الدار المختار ورد المحتار ج2 ص243).

د- وقول شيخ الإسلام ابن تيمية في قراءة القرآن للميت :إن ثوابها يصل إليه فقد ذكر أن في هذه المسألة قولين للعلماء، ثم رجح القول بوصول ثواب قراءة القرآن للميت فقال -رحمه الله- تعالى: “وأما الصيام، وصلاة التطوع، وقراءة القرآن فهذا فيه قولان للعلماء:
الأول:- ينتفع به وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما.
الثاني: لا تصل إليه وهو المشهور في مذهب مالك.

ثم قال –رحمه الله- في فتوى له: وتنازعوا في وصول الأعمال البدنية: كالصوم والصلاة وقراءة القرآن، والصواب أن الجميع يصل إليه، أي يصل ثوابها إلى الميت”
(مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج24 ص315، ص366)

والشرط في وصول ثواب قراءة القرآن للميت أن لا تكون قراءة القارئ للميت بعرض مادي؛ لأنها إن كانت كذلك فلا ثواب فيها، وبالتالي لا يوجد ثواب يُهدى إلى الميت وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما الاستئجار لنفس القراءة –أي قراءة القرآن – والإهداء، فلا يصح ذلك، لأنه لا يجوز إيقاعها إلا على وجه التقرب إلى الله تعالى، وإذا فعلت بعروض لم يكن فيها أجر بالاتفاق، لأن الله تعالى إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه لا ما فعل لأجل عروض الدنيا.

ثم قال – رحمه الله تعالى-: وأما إذا كان لا يقرأ القرآن إلا لأجل العروض – أي الأعواض المادية – فلا ثواب له على ذلك، وإذا لم يكن في ذلك ثواب فلا يصل إلى الميت شيء؛ لأنه إنما يصل إلى الميت ثواب العمل لا نفس العمل..
أهـ
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:

لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع شيء يثبت انتفاع الأموات بقراءة غيرهم القرآن عليهم ، والآية ناطقة بأن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله وكسبه ، ومنه ما يبقى أثره أو عينه بعد موته كالصدقه الجارية والعلم النافع والذرية الصالحة ، ولذلك ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم يُنْتَفع به أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة .

فهذه الثلاث ملحقة بعمل الإنسان ومعتبرة منه فلا حاجة إلى ما قاله بعضهم من تخصيص عموم قوله تعالى : [ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ] ( النجم : 39 ) بالحديث إذ لا منافاة .

ومثل ذلك يقال فيمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل يتصدق عن أبيه ، ومَنْ سأله هل يتصدق عن أمه ، وإجابته إياهم بنعم ومنهم سعد بن عبادة الذي سأله : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : سقي الماء .

ولم يرد مثل ذلك إلا في صدقة الأبناء عن الوالدين ، وقد ألحقوا بهم غيرهم في الصدقة ، ولا دليل على ذلك إلا إذا صح القياس في الأمور التعبدية ، وخصوا الآية بالعبادات البدنية كالصلاة والقراءة .

وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بالآية على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات ، وهو مذهب مالك أيضًا .

وأما حديث ( اقرءوا يس على موتاكم ) فقد رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي وابن حبان وصححه وأحمد بلفظ آخر ، ولكن ابن القطان أعله بالاضطراب وبالوقف وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه من رجال سنده ، وقال الدارقطني : هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ، وتصحيح ابن حبان لا يُعول عليه مع هذا الجرح ؛ لأنه كان يتساهل بالجرح فيعتمد جرحه دون تعديله إذا انفرد به كما صرح به الذهبي في ( ميزان الاعتدال ) على أنه فسره في صحيحه بقراءتها عند المحتضر فقال : ( أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يُقْرَأ عليه ) وخالفه المنتصرون للقراءة على الأموات .

ولو أن في الباب حديثًا صحيحًا لما احتاجوا للاستدلال بحديث وضع الجريدتين على القبر ، ولا دلالة فيه كما هو ظاهر.