قرر المحققون من علماء الإسلام: أن إيمان المقلد المطلق غير مقبول، لأنه لم يؤسس على برهان، ولم يقم على حجة بينة، بل على تقليد محض كما قال تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف: 23).
والقرآن يطالب كل ذي دعوى بإقامة البرهان على دعواه، وإلا طرحت ورفضت، ولهذا قال في محاورة المشركين قال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل: 64)، وقال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (الأنبياء: 24).
وقال في محاجة أهل الكتاب قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111).
فالعقائد لا بد أن تؤسس على البراهين اليقينية، لا على الظنون والأوهام. ولهذا عاب الله المشركين بقوله: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (الجاثية: 32)، قال تعالى:(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) (الجاثية: 24).
ليس في الإسلام إذن ما عرف في بعض الأديان الأخرى من اعتبار الإيمان شيئًا خارج منطقة العقل ودائرة التفكير، وإنما يؤخذ بالتسليم المطلق، وإن لم يرتضه العقل، أو يسانده البرهان، حتى شاع عندهم مثل هذا القول: ” اعتقد وأنت أعمى !” أو ” أغمض عينيك ثم اتبعني !”.
ويحرم على المسلم أن يتبع الظنون والأوهام، معطلاً الأدوات التي وهبه الله إياها لتحصيل المعرفة الصحيحة، وهي: السمع والبصر والفؤاد، قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) (الإسراء: 36) قال العلماء في تفسير هذه الآية: إن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، وفي الصحيحين: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث” متفق عليه عن أبي هريرة، وفي سنن أبي داود وغيره: “بئس مطية الرجل: زعموا” رَواهُ أحمدُ وأبو داود عن حذيفة – صحيح الجامع الصغير (2846).
-إن تعطيل السمع والبصر والفؤاد ينزل بالإنسان من أفق الإنسانية العاقلة إلى حضيض البهيمية الغافلة، بل يجعل الإنسان أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنها لم تؤت ما أوتى من قوى التمييز والإدراك، فكان جديرًا أن يكون من حطب جهنم: قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179).
-لقد عاب القرآن على المشركين اتباعهم للظن في تكوين العقائد التي لا يغني فيها إلا اليقين القائم على البصيرة والبرهان. وفي ذلك بخطابهم فيقول في شأن آلهتهم قال تعالى: (إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ) (النجم: 23)، ويقول في هذا السياق نفسه: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28).
-وعاب على أهل الكتاب في قضية قتل المسيح ما عابه على الوثنيين فقال تعالى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) (النساء: 157 – 158).
–ولا يحل لمسلم أن يأخذ فكرته عن الوجود: مبدئه ومنتهاه، وعلته وأسراره، إلا عن رب الوجود، فكل ما يتصل بمسائل الغيب والعقيدة في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وغايات الحياة وأسرار الكون، ليس له مصدر إلا وحي الله المنزل على رسوله، المؤيد بالآيات البينات، الدالة على صدق نبوته، القاطعة بصحة رسالته.
-إن من أراد أن يعرف فكرة صحيحة كاملة عن دقائق جهاز ما، وعن الغاية من صنعه، فلابد أن يأخذها من صانعه نفسه، والله تعالى هو صانع هذا الكون، علويه وسفليه،بمن فيه وما فيه، وما نبصره وما لا نبصره، وهو وحده القادر على أن يمدنا بالحقائق الصادقة عن هذا الوجود وأسراره وغاياته قال تعالى: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14).
وكل النظريات والفلسفات التي زعمت أنها فسرت الوجود وخباياه، والحياة وأسرارها، إنما هي فروض ظنية يضرب بعضها بعضًا قال تعالى: (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28).