لا شك أن الرَّضاع من مُوجبات التحريم في الزواج، بنص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. كما أنه يُحتاط في الأبضاع ما لا يُحتاط في غيرها. وإذا كان هناك خلاف في عدد الرضعات المُحَرمة فإن الأحْوَط قبل الزواج أن يُؤخذ بالقول الذي يُحَرم برضعة واحدة، وإن جاز الزواج على أقوال أخرى، كما أن الأحوط بعد الزواج، وبخاصة إذا كانت هناك ذُرية، أن تبقى الأسرة على وضعها بناء على القول الذي لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات أو أكثر، وإن وجب التفريق على أقوال أخرى.

والمُلاحظ أن أمر الرضاع يَطلع عليه النساء أكثر من الرجال، ولذلك قَبِل فيه بعض الأئمة شهادة النساء دون حاجة معهن إلى الرجال، فيثبت بشهادة أربع نسوة .

كما يلاحظ أن بعض النساء اللاتي لسن على الدرجة المطلوبة من خوف الله، إذا رَغِبْن في زواج رجلٍ وامرأة يُنْكِرن حدوث رضاع بينهما، وإذا لم يرغبن في هذا الزواج، سواء أكان قبل إتمامه أو بعده يُؤكدن أنه حدث بينهما رضاع ، وهنا تكون المُشكلة .

وقد تحدَّث العلماء عمَّا يثبُت به الرَّضاع، فقالوا يثبُت بالإقرار أو البَيِّنَة .

الإقرار:
يراد بالإقرار اعتراف الطرفين، أو أحدهما، وهذا الإقرار قد يكون قبل الزواج أو بعده .
1 ـ فإذا أقرَّ رجل بأن هذه المرأة أخته من الرَّضاعة فإن صدَّقته في إقراره ثبتت الحُرْمَة بينهما بهذا التصديق، سواء أكان قبل الزواج أو بعده، وكذلك إذا أقرت المرأة وصدَّقها الرجل .
وعند الافتراق قبل الدخول فلا شيء لها من المَهْر، وإن كان بعد الدخول وجب الأقل من المهر المُسمى ومهر المِثْل، وذلك شأن كلِّ نكاح فاسد أَعْقَبَه دخول، ولا تجب لها نفقة في عِدتها ولا سكنى .
2 ـ وإذا أقرَّ الرجل وكذَّبته المرأة ثبت التحريم أيضًا، ووجب التفريق بعد الزواج، فإذا كان قبل الدخول وجب لها نصفُ المَهْرِ، وإذا كان بعد الدخول وجب المَهْرُ كلُّه، إذا كان مُسمى، كما أن لها النفقة والسكنى في مدة العِدة؛ لأن إقراره حُجَّة قاصرة عليه، ولا يتعدى إلى حقوق المرأة بالإبطال ما دامت مُكذبةً له .

فإذا رجع عن إقراره يُقْبَل رجوعه بشرط ألا يكون قد أَكَّدَ إقراره الأول بما يفيد اليقين، ولو كان رجوعٌ بعد العقد يبقى العقد قائمًا كما كان .

3 ـ وإذا أقرَّت المرأة بالرضاع وكذَّبها الرجل فلا يجوز لها أن تتزوجه فإذا رجعت عن إقرارها يجوز لها الزواج، أما إن كان الإقرار بعد الزواج وكذَّبها الزوج فلا عِبرة بإقرارها حتى لو أصرَّت عليه؛ لأنها مُتهمة فيه، فقد يكون لها غرضٌ في التخلُّص منه بهذا الادِّعاء، بخلاف إقراره هو فإنه يُقْبَل ولا عِبْرَة بإنكارها؛ لأنه غير مُتهم في إقراره بأنه يريد التخلُّص منها؛ لأن تخلُّصه منها مُمكن بالطلاق الذي يملكه، دون حاجة إلى الإقرار بالرضاع ولدوران الحُكم على التهمة لو كان أمرها بيدها في الطلاق تصدق في إقرارها بالرضاع .

الْبَيِّنَة:

إذا كان هناك اتفاق بين العلماء على اعتبار الْبَيِّنَة في ثبوت الرضاع فإن بينهم خلافًا في قدر هذه البيِّنة والعدد الذي يُعتبر فيها .
فمنهم من اكتفى بشهادة النِّساء وَحْدَهُنَّ، وهؤلاء منهم من يكتفي بامرأة واحدة إذا كانت معروفة بالصِّدْقِ والعدالة ، ومنهم من يشترط العدد، وهو امرأتان على الأقل، ومنهم من يشترط أربع نساء، ومنهم من لا يكتفي بشهادة النساء وحدهن، فالرضاعة لا تثبت عندهم إلا برجلين، أو رجل وامرأتين .

1 ـ فالذين يكتفون بشهادة امرأة واحدة هم الحنابلة، وهو رواية عن مالك، وهذا القول مروي عن عثمان وابن عباس والزهري والحسن وإسحاق والأوزاعي ومروي كذلك عن أبي عبيد إلا أنه قال: يجب على الرجل أن يعمل بقول المرأة فيفارق زوجته، لكن لا يجب على الحاكم أن يحكم بشهادتها وحدها إذا رُفِعَ الأمر إليه. واستدلَّ هؤلاء بحديث رواه البخاري وغيره أن عُقبة بن الحارث تزوج أم يحيى بنت إهاب، فجاءت بأَمَة سوداء وأخبرتهما بأنها أرضعتهما، ولما رُفِع الأمر إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يفارقها على الرغم من أن عُقبة يظنها كاذبة، ولما كرَّر عُقبة على الرسول هذا الخبر قال له: “كيف وقد قيل، دعها عنك “.

فدلَّ هذا على أن الزواج وَقَعَ فاسدًا وتجب المُفارقة. ولو كان قد وقع صحيحًا وأراد له النبي أن يفارقها استحبابًا لا وجوبًا لقال له: طلِّقها، ولم يقُل له ذلك .
ثم قال أصحاب هذا الرأي، ردًا على من يشترطون العدد في الشهادة إن قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ مِمَّنْ تَرْضَونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) (البقرة: 282) قول عام يُخَصَّص بحديث عُقبة المذكور .
وردوا أيضًا على ما رُوي أن عليًا وابن عباس والمُغيرة لم يُفَرِّقوا بين الزوجين بسبب شهادة واحدة على الرضاع بأن المُقرر أن أقوال بعض الصحابة ليست بحُجَّة عَلَى فرض عدم مُعَارضتها لما ثبت عن الرسول، فكيف تكون حُجَّة وهي معارضة لما ثبت عنه .

2 ـ والجمهور على عدم الاكتفاء بشهادة واحدة على الرضاع، ومن هؤلاء من اكتفى بشهادة امرأتين، وهو الإمام مالك ومنهم من اشترط أن يشهد رجلان أو امرأتان وهو أبو حنيفة ، ومنهم من أجاز الشهادة من أربع نسوة وهو الشافعي .

هذا، وقد قال الشوكاني في نيل الأوطار، (ج 6 ص 338) : حُكي في البحر عن الهادوية والشافعية والحنفية أنه يجب العمل بالظن الغالب في النكاح تحريمًا، ويجب على الزوج الطلاق إن لم تكتمل الشهادة، بدليل حديث الأَمَة التي شَهِدَتْ برضاع عُقبة وأم يحيى، وقال الإمام يحيى: الخبر محمول على الاستحباب، ويمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب “أحكام الأسرة في الإسلام” للدكتور محمد شلبي .