إن الله -عز وجل- أنزل كتابه، وجاءت السنة بيانًا لما جاء في القرآن، وكل ذلك جاء على نحو يحتمل في الاجتهاد أوجهًا، فاللفظ قد يدلّ على أحكام أو معان يترجح أحدها عند مجتهد ويترجح عند مجتهد آخر، وهذه المعاني مقصودة للشارع قطعًا.
وهذا يعني أن الله -عز وجل- عندما أنزل النص القرآني أنزله بحيث يحتمل منه معنيان ويستنبط منه حكمان أو أكثر حتى تكون هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان مع اختلاف ظروف المجتمعات، فالخلاف إذن في الرأي والاجتهاد مقصودان للشارع لا ضرر فيهما، وقد حدث زمن الصحابة -رضي الله عنهم- كما حدث بين المجتهدين، وهو رحمة مهداة من الله -عز وجل-.
لأنه مثلاً إذا قرأنا قوله تعالى “وامسحوا برؤوسكم”، وعلمنا أن هذه الآية تحتمل مسح الرأس كله أو بعضه غير معين أو بعض معين، وهو الجبهة، وبذلك أخذ الائمة، فمالك يرى مسح جميع الرأس، والشافعي بعض الرأس غير معين وأبو حنيفة ربع الرأس، فهذا يعني أن النص القرآني يحتمل المعاني كلها قصدًا للرحمة والتخفيف على العباد، والمجتهد يعمل باجتهاد نفسه، ولا يلزمه اجتهاد غيره، فلا إشكال بالنسبة له وأما غير المجتهد فإنه يتخيَّر من بين آراء المجتهدين، وليس ملزمًا باجتهاد إمام بعينه ولا شك أن هذه رحمة، ومن عمل برأي إمام مجتهد فقد أطاع الله، لأن هذا الرأي يسنده دليل من النص القرآني، أما بالنسبة للوقت الفاصل بين الأئمة والمجتهدين والمدارس الفقهية فليس له دخل، بل إن هذا الاختلاف في الاجتهاد وتعدد الآراء حدث في الزمن الواحد، وقد ثبت أن النبي -ﷺ- قال لأصحابه في فتح بني قريظة، وقال لهم: “لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة. فأدركهم غروب الشمس، فأراد قوم أن يصلوا وفهموا أن النبي -ﷺ- أراد منهم الإسراع، وليس منع الصلاة إلا في قريظة ولم يصلِّ بعضهم إلا بعد غروب الشمس في بني قريظة، فلما عادو إلى النبي -ﷺ- وقصوا عليه فهمهم دعا للجميع بخير فكلهم أطاع الله وأطاع رسوله حسب فهمه الذي له سند من اللغة العربية، والقرآن المصدر الأكبر للتشريع نزل بلسان عربي مبين، والسنة كذلك صاحبها -عليه الصلاة والسلام- أفصح العرب.