يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
نقل الحافظ إجماع المسلمين على أن الحائض لا يشرع لها الصلاة ولا الصيام، وأنها تقضي الصيام دون الصلاة، إلا أنهم نقلوا أن سمرة بن جندب – من الصحابة – رضي الله عنه – كان يقول بمطالبة المرأة بقضاء الصلاة أيضًا فأنكرت ذلك عليه أم المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها، ونقلوا أيضًا مثل ذلك عن بعض الخوارج ولم يعتدوا به ولا رأوه مخلاًّ بالإجماع، وأما مخالفة سمرة فهي تخرق الإجماع ، وظاهر كلامهم أنه رجع إلى قول أم سلمة لأن أمهات المؤمنين هن القدوة فيما يروينه من هذه الأحكام المتعلقة بالنساء؛ إذ لا يمكن أن يوجب الله على النساء قضاء الصلاة ولا يأمرهن به النبي ﷺ؛ بل لا يجوز منه السكوت عن ذلك أو إقراراهن عليه.
وقد جعل العلماء حجة الإجماع على ذلك ما ورد فيه من الحديث، ويمكن أن يستنبط الدليل من القرآن على منع الحائض من الصلاة، فإنه تعالى قد اشترط الطهارة للصلاة، والطهارة متعذرة على الحائض مع استمرار سببها وهو نزول الدم، أما الطهارة المشترطة للصلاة إجماعًا؛ فهي الوضوء من الحدث الأصغر والغسل من الحدث الأكبر، وأما المشترطة عند الأكثرين فقط فطهارة البدن والثوب والمكان.
وقد صرح القرآن في آيتي الوضوء والتيمم بأن طهارة الجنب الغسل ، والحائض ملحقة بالجنب لأن حدثها كحدثه في تأثيره في الروح والجسد، كلاهما يحدث في الجسد ضربًا من الضعف والفتور يزيله تعميم البدن بالماء، كما بيّناه في حكمة الوضوء والغسل، وكلاهما يضعف الروحانية، وقد ثبت في السنة والإجماع القولي والعملي المتواترين أن المراد بقوله تعالى: في بيان طهارة الحيض ؛ [ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ]( البقرة : 222 ) فإذا اغتسلن ، فطهارتهن الغسل بالكتاب والسنة والإجماع، وهي متعذرة مع وجود سببها ، وإنما تجب بزواله، فإذا تعذرت الطهارة تعذرت الصلاة شرعًا لأنها مشروطة بها، وتتعذَّر عليها الطهارة من الخبث كما تتعذر عليها الطهارة من الحدث، فإن الدم نجس شرعًا وعرفًا لأنه مستقذر جدًّا باتفاق الطباع السليمة من كل الأمم.
ولا يلزم من نجاسته نجاسة الجنين الذي يتغذى به، كما لا يلزم أن يكون النبات الذي يتغذى بالعذرة والروث وغيرهما من الأقذار نجسًا، فالنجاسة في الشرع والعرف لا تبنى على قواعد الطب ، فإن جميع أدباء البشر؛ بل جميع طبقاتهم تستقذر الملطخ بالدم وتعاف مجالسته ومواكلته ومصاحبته، وإن لم يضرهم ذلك الدم بإفساد صحتهم عليهم ، وخروج المني يوجب الغسل وهو طاهر عند بعض الأئمة.
وصرّح الفقهاء بأن الدم وغيره لا يحكم بنجاسته في معدنه من البدن؛ بل بعد خروجه، ومتى خرج دم الحيض صار قذرًا ولم يعد غذاء للأجنة.
وقد علم مما تقدم أن ما ثبت في السنة العملية والإجماع مِن سقوط الصلاة عن الحائض له مأخذٌ ما مِن القرآن، والقرآن لم يبين أحكام الصلاة التفصيلية بل تركه لبيان النبي – ﷺ – الذي خاطبه بقول: [ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ]( النحل : 44 )؛ إذ يشمل هذا بيان الذكر المنزل وتبليغه ، وبيان المُجْمَل منه ، وما يستنبط من دقائق تعبيره وأساليبه – كاستنباط النبي – ﷺ – تحريم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة من قوله تعالى: [ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ]( الأعراف : 31 )، بجعل الإسراف في لزوم الشيء ومتعلقاته كالإسراف فيه نفسه، واستنباطه تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها من تحريم الله الجمع بين الأختين، لاتحاد العلة، واطراد الحكمة.
ولم نذكر في سياق هذا الاستدلال ما عليه السواد الأعظم من المسلمين من تحريم قراءة القرآن على الجنب والحائض، والقرآن ركن من أركان الصلاة لا تقام بدونه؛ لأنه وقع فيه خلاف ما، ولهذا مأخذ من القرآن وإن لم يكن نصًّا فيه، وهو قوله تعالى : [ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ ]( الواقعة : 79 ).
وجملة القول أن الصلاة أكمل العبادات إذا لم تصح مع الجنابة فلا تصح مع الحيض بالأَوْلى ، وكِلا السائلين فيهما من أسباب النسل، والحيض مرض قد تضر معه الصلاة كما قلتم ، والفرق بينه وبين سائر الأمراض التي تسقط معها الصلاة أنه طبيعي دائم وسائر الأمراض ليست كذلك، وهي خلاف الأصل ومقتضى الطبيعة المعتدلة.
وإذا أسقطها الشرع عن المرأة تخفيفًا عليها، فإن لها من العبادة المزكية للروح ما لا يشترط فيه ما يشترط فيها وهو ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان والتفكر في خلق السموات والأرض [ اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ]( العنكبوت : 45 ).