إن السعي للزرق والهجرة من أجل تحصيله لا يتنافى مع التوكل ولا يدل على عدم القناعة، ولكن على المسلم في سعيه هذا أن يحافظ على واجباته الدينية ولا يتهاون فيها أبدًا، وأن يتحرّى الحلال في كل عمل يقوم به، وأن يرضى بما قسمه الله له.

حكم العمل الإضافي طلبا للرزق وضوابطه:

يقول الأستاذ الدكتور محمد السيد أحمد المسير (أستاذ العقيدة بالأزهر):
السعي على المعاش فريضة بعد الفريضة، والعاقل هو مَن يعمل ليكتسب الرزق الحلال، وقد قال الله تعالى: (هو الذي جعلَ لكمُ الأرضَ ذلولاً فامشُوا في مناكبِها وكُلوا من رزقه وإليه النشور) (الملك:15).
وقال رسول الله ـ : “ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود ـ عليه السلام ـ كان يأكل من عمل يده”.

فالبحث عن عمل إضافي لزيادة الدخل جائز شرعًا بل مُسْتَحَبٌّ كلما كان ذلك بضوابطه الشرعية، وهي:
أولاً: لا يكون على حساب عمله الأصلي، فلا يقصِّر فيه ولا يتوانَى عن أداء الواجبات المنوطة به وإلا كان آثمًا.
ثانيًا: أن يكون العمل الإضافي مشروعًا فلا يعمل في محرَّم ولا يشارك في خبيث ولا يساعد على منكَر.
ثالثًا: أن يتوافر له بعد ذلك وقت يقضيه بين أهله وولده يرعاهم ويشرف على سلوكهم ويأنَسُون به، ولا قيمة للحياة المادية في غَيبة السكَن الأسري والطمأنينة الزوجية والكفالة الروحية للأولاد.
رابعًا: أن يكون لدى العامل اقتناع وقناعة:
اقتناع بأن الله قسم الأرزاق ولم ينس أحدًا وأن آلاء الله ونِعَمه على الإنسان لا تُعَدُّ ولا تُحصَى.
وقناعة نفسية بما يملك حتى لا يُصاب بالهلَع والجزَع وسوء التفكير وأمراض النفس.
وقد قال رسول الله ـ : “ليس الغِنَى عن كثرة العرَض، ولكن الغنى غنى النفس”.

حكم الهجرة لطلب للزرق:

يقول الشيخ عطية صقر (رئيس لجنة الإفتاء بالأزهر الشريف سابقا):
إن الهجرة من مكان إلى مكان آخر من أجل الكسب الحلال لا مانع منها مُطلقًا وقد هاجر المسلمون من جزيرة العرب وغيرها لنشر الإسلام وابتغاء الرزق في مناطق عديدة من العالم، ولا يزال المسلمون يهاجرون من أوطانهم إلى أوطان أخرى من أجل ذلك قال تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَة) (سورة النساء : 100) (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (سورة الملك : 15).
والشرط في هذه الهجرة أن يأمن المهاجر على عقيدته وشرفه ويتمتع بحريته وكرامته في حدود الدِّين، أما إذا خاف أن يُفتن في دينه عقيدة وسلوكًا حُرِّم عليه أن يهاجر إلى هذا البلد أو يستقر فيه، وعليه أن يهاجر إلى بلد آخر يجد فيه الأمان، فإذا ضاقت به السُّبل عاد إلى وطنه قانعًا بالرزق القليل ليحافظ على دينه.

هل السعي للزرق ينافي التوكل:

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
مَن نظر في حال أصحاب رسول الله -وهم خير قرون هذه الأمة وأفضل أجيالها- وجدهم يكدحون ويعملون لمعاشهم، ولم ينقص ذلك من توكلهم على الله تعالى.
كان المهاجرون في مجموعهم أهل تجارة، وكان الأنصار أهل زرع.
ولما عرض سعد بن الربيع الأنصاري على عبد الرحمن بن عوف أن يقاسمه ماله وداره وأهله، قال له: بارك الله لك في مالك وأهلك ودارك إنما أنا امرؤ تاجر، فدلوني على السوق!
وأبو بكر، حينما بويع بالخلافة، أراد أن يذهب إلى السوق -على عادته- يقتات لأهله، ويتجر ليكسب لهم ما يكفيهم. وهذا -كما يقول أبو طالب المكي- في أتم أحواله، حين أُهِّل للخلافة وأقيم مقامة النبوة، حتى اجتمع المسلمون، فكرهوا له ذلك، فقال: لا تشغلوني عن عيالي، فإني إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع، حتى فرضوا له قوت أهل بيت من المسلمين، لا وكس ولا شطط.
وقال معاوية بن قرة: لقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون. قال: بل أنتم المتأكلون. إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله عزَّ وجلَّ.

ومن المشهور عنه: أنه رأى جماعة يقعدون في المسجد بعد صلاة الجمعة، فأنكر عليهم، وقال: لا يقعدنَّ أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضةً! إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض. أما قرأتم قول الله تعالى: (فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)؟ (الجمعة: 10).

وقد حكوا عن شقيق البلخي -وهو من أهل العبادة والزهد- أنه ودَّع صديقه إبراهيم بن أدهم، لسفره في تجارة عزم عليها. ولم يلبث إلا مدة يسيرة، ثم عاد، ولقيه إبراهيم، فعجب لسرعة إيابه من رحلته، فسأله عما رجع به قبل أن يتم غرضه، فقصَّ عليه قصة شهدها، جعلته يغير وجهته ويلغي رحلته، ويعود قافلاً.
ذلك أنه نزل للراحة في الطريق، فدخل خربة يقضي فيها حاجته، فوجد فيها طائراً أعمى كسيحاً لا يقدر على حركة، فرَقَّ لحاله، وقال: من أين يأكل هذا الطائر الأعمى الكسيح في هذه الخربة؟ ولم يلبث أن جاء طائر آخر يحمل إليه الطعام ويمده به، حتى يأكل ويشبع، وظل يراقبه عدة أيام وهو يفعل ذلك، فقال شقيق: إن الذي رزق هذا الطائر الأعمى الكسيح في هذه الخربة لقادر على أن يرزقني! وقرر العودة.
وهنا قال له ابن أدهم: سبحان الله يا شقيق! ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز الذي ينتظر عون غيره، ولا تكون أنت الطائر الآخر الذي يسعى ويكدح ويعود بثمرة ذلك على من حوله من العمي والمقعدين؟! أما علمت أن النبي قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى)؟.
فقام إليه شقيق وقبَّل يده وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق!