إن أَمْر الرسول ـ ـ واجب الاتباع، وسنته ثابتة الحُجِّيَّة في أحكام الدين بنص القرآن، فليس لمسلم أن يَنْأَى عن السُنَة ويقول لا نُذْعِن إلا لِمَا جاء في القرآن وَحْدَه، إذ القرآن أوجب طاعة الرسول والرد إلى سنته، والاحتكام إلى أقواله والرضا والتسليم بقضائه، وحَرَّمَ مخالفته والإعراض عن سنته الثابتة، وجعل الأخذ به أخذًا بالقرآن .

فيقول الشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق :

أوجب الله، تعالى، على عباده المؤمنين طاعته وطاعة رسوله ـ ـ الذي بعثه للناس كافة مبشرًا ونذيرًا وداعِيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأَوْحى إليه بما أوحى من القرآن والبيان والشرائع فيما تَمَسُّ إليه حاجة البشر وتدعو إليه مصلحة الأمة في أمور الدين والدنيا جميعًا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وجعل طاعته ـ ـ طاعة له فقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) وقال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) والرد إلى الله، تعالى، وإلى الرسول ـ ـ عند التنازع في أمر من أمور الدين دقيقًا كان أو جليلًا، هو الرد إلى كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والرد إلى رسوله في حياته، وإلى سُنَّته بعد وفاته، وهو من مقتضيات الإيمان ولوازمه، وقد أخبر تعالى أنه خير للمؤمنين، وأن عاقبته أحسن عاقبة، إذ به الهداية، وفيه النجاة، كما أن الإيمان لا يتم إلا بالاحتكام إلى الرسول في حياته، وإلى سُنَّته الثابتة بعد وَفَاتِه فيما يَعْرِض من الخلافات والمنازعات وبِقَبُول قضائه برضًا وطمأنينة، وتسليم وإذعان.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فلا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تُفْتُوا حتى يُفْتِيَ، ولا تقطعوا أمرًا حتى يكون هو الذي يَقْطَع فيه ويَحْكُم، ولا فرق في ذلك بين حال حياته وحال وفاته ـ ـ فكما لا يجوز التقدم عليه في شيء من ذلك حال حياته، لا يجوز التقدم على ما أُثِرَ عنه من السنن والشرائع بعد وفاته، فمن آثر قضاءه على قضاء الرسول وقوله على قوله، وقدم رأيه وهواه على ما ثَبَتَ من هَدْي النبوة فقد قَدَّمَ نفسه على الرسول وعصى ربه في قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وكان بذلك ضالًّا ضلالًا مبينًا وخاسرًا خسرانًا عظيمًا.

قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) إنه تعالى جعل رفع أصواتهم فوق صوت رسوله المبعوث سببًا لحبوط أعمالهم، فكيف بتقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ـ ـ ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطًا للأعمال وخسرانًا مبينًا؟

ودَلَّ قوله تعالى: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) على أن مِن لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبًا إذا كانوا معه إلا باستئذانه، وإذنه يعرف في حياته مُعَايَنة، وبعد وَفَاتِه بدلالة سُنَنِه الصحيحة الثابتة عليه.

(وجملة القول) أن أَمْر الرسول ـ ـ واجب الاتباع، وأن سنته ثابتة الحُجِّيَّة في أحكام الدين بنص القرآن، فليس لمسلم أن يَنْأَى بجانبه عن الأخذ بقول الرسول وسُنَنِه، ويقول لا نُذْعِن إلا لِمَا جاء في القرآن وَحْدَه، فإنه بِهَذا الزعم قد أَعْرَض عن القرآن وخالفه ونَاقَضَ نفسه في قوله ورأيه إذ القرآن أوجب طاعة الرسول والرد إلى سنته، والاحتكام إلى أقواله والرضا والتسليم بقضائه، وحَرَّمَ مخالفته والإعراض عن سنته الثابتة، وجعل الأخذ به أخذًا بالقرآن (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).

وكيف يتأتى العمل بالقرآن بدون بيان من الشارع لِمَا أُجْمِلَ فيه من الأحكام؟ ألا ترى أن القرآن أَمَرَ بالصلوات ولم يُبَيِّن عَدَدَها، ولا عدد ركعاتها ولا كيفيتها ولا شروطها ولا مبطلاتها، وأمر بالزكاة ولم يُبَيِّن نِصَابَها ولا جميع ما تَجِبُ فيه، ولا شروط وجوبها، وكذلك الصوم والحج، فبينت السنة كل ذلك، (مما جعل الامتثال والطاعة والعمل بالأحكام الشرعية في حيز الإمكان، وكان ذلك) محالًا لولا البيان، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وقال تعالى: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ).