ينبغي علينا ضرورة الاعتراف بالتغير الذي يطرأ على الناس سواء أكان سببه فساد الزمان كما يعبر الفقهاء، أو تطور المجتمع، أو نزول ضرورات به، ومن ثم أجاز فقهاء الشريعة تغيير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة والأعراف والأحوال، مستدلين في ذلك بهدي الصحابة وعمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا النبي أن نهتدي بسنتهم ونعض عليها بالنواجذ. بل هو ما دلت عليه السنة النبوية، وقبلها القرآن الكريم.

هل تغيير الفتوى بتغيير الزمان والمكان والأحوال والعادات؟

هذا ما يوجب علينا في هذا العصر أن نعيد النظر في أقوال قيلت، وآراء اتخذت في أعصار سابقة، ربما كانت ملائمة لتلك الأزمنة وتلك الأوضاع، ولكنها لم تعد ملائمة لهذا العصر بما فيه من مستجدات هائلة، لم تكن لتخطر للسابقين على بال. والقول بها اليوم يسيء إلى الإسلام وإلى أمته، ويشوه وجه دعوته.
من ذلك: تقسيم العالم إلى دار إسلام، ودار حرب، واعتبار أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب، وأن الجهاد فرض كفاية على الأمة إلى آخر تلك الأقوال.

والواقع أن هذه الأقوال لم تعد تصلح لزماننا، ولا يوجد من نصوص الإسلام المحكمة ما يؤيدها، بل في هذه النصوص ما يناقضها.

-فالإسلام ينشد التعارف بين البشر جميعا قال تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).

-ويعتبر السلام والكف عن الحرب نعمة. ولقد عقب على غزوة الخندق بقوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال).

-ويعتبر صلح الحديبية فتحًا مبينًا يمتن به على رسوله، وينزل فيه سورة الفتح قال تعالى: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا).

-ويمتن على رسوله وعلى المؤمنين في هذه السورة أنه كف أيدي الفريقين بعضهما عن بعض، فيقول سبحانه وتعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم).

-والرسول ينفر من كلمة “حرب” حتى إنه يقول: “أصدق الأسماء حارث وهمام، وأقبح الأسماء حرب ومرة”.

-والجهاد الذي شرعه الإسلام في الأزمان الماضية، كان له هدف واضح، وهو إزالة العوائق المادية من طريق الدعوة.

وقد كان الأباطرة والملوك في تلك الأزمنة يقفون حائلا دون وصول دعوة الإسلام إلى شعوبهم، ولهذا بعث الرسول إليهم برسائله يدعوهم فيها إلى الإسلام، ويحملهم إثم ضلال أممهم، التي عزلوها عن الاستماع إلى أي صوت خارجي، خشية أن يوقظهم من سباتهم، ويشعرهم بذاتيتهم، فيهبوا من رقدتهم، ويتمردوا على طواغيتهم. ولهذا نجدهم قتلوا الدعاة حينا، أو بادروا المسلمين بالقتال حينا، أو أعدوا العدة لغزوهم وهددوهم في عقر دارهم.

-أما اليوم، فلا عوائق أمام الدعوة، وخصوصا في البلاد المفتوحة التي تقبل التعددية، ويستطيع المسلمون أن يبلغوا دعوتهم بالكلمة المقروءة، والكلمة المسموعة، والكلمة المشاهدة. ويستطيعون بالإذاعات الموجهة أن يبلغوا العالم كله بلغاته المختلفة، وأن يتكلموا مع كل قوم بلسانهم ليبينوا لهم.

ولكنهم في الواقع مقصرون كل التقصير، وهم مسؤولون أمام الله تعالى عن جهل أمم الأرض بالإسلام.

من مزالق الفتوى؟

-الجمود على ما سطر في كتب الفقه، أو كتب الفتاوى منذ عدة قرون، والإفتاء بها لكل سائل دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعرف والحال، مع أن هذه كلها تتغير وتتطور، ولا تبقى جامدة ثابتة أبد الدهر.
-من ذلك ما يذكره بعض أهل الفتوى مما نصت عليه كتب الفقه: أن حليق اللحية لا تقبل شهادته.
ومهما يكن رأينا في حلق اللحية وتأثيم فاعلها ـ وهو أمر اختلف فيه المعاصرون ـ فنحن لا نستطيع رد شهادة الحليق، لعموم البلوى به، وعموم البلوى من أسباب التخفيف والرخص كما هو معلوم.

-ولو أخذنا بالرأي المدون في الكتب لأوشكنا أن نعطل المحاكم في أداء وظيفتها في الفصل في الخصومات والقضاء بين الناس والعدل.

-وأكثر من ذلك ما ذكره الفقهاء من أن الأكل في الطريق يسقط المروءة، وبالتالي يسقط الشهادة.

ولا يخفى أن عصرنا يعرف بأنه “عصر السرعة” وهي سرعة في كل جانب، حتى في الأكل، ولهذا يسمونه: عصر “الساندوتش” ولهذا نرى كثيرًا من الناس يأكلون في الشوارع، وأمام المحلات، ونحوها، ولم يعد هذا السلوك منافيًا للمروءة لدى جمهور الناس كما كان من قبل.

-ومن ذلك ما ذهب إليه جمهور الفقهاء في مختلف المذاهب المتبوعة من منع المرأة من الذهاب إلى المسجد للصلاة وبخاصة الشابة، سدًا للذريعة، وخوفًا من الفتنة: أي خشية أن نفتن أو تفتن.

فمثل هذا إذا كان له ما يبرره في العصور الماضية لم يعد له ما يبرره اليوم، فقد خرجت المرأة بالفعل إلى المدرسة، وإلى الجامعة وإلى العمل وإلى السوق وإلى غيرها، فلا يجوز أن يبقى المسجد وحده هو المكان المحظور عليها، في حين أن الحديث الصحيح يقول “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله” رواه مسلم. ولا سيما أن المرأة لا تستفيد من المسجد الصلاة فقط، بل تستفيد معها حضور المواعظ والدروس الدينية، وتتعرف على غيرها من صالحات النساء، فيتعارفن على الخير، ويتعاون على البر والتقوى.

-والواقع أن كل نساء الملل والأديان في الشرق والغرب يذهبن إلى معابدهن ما عدا المرأة المسلمة.

وقد لمست بالتجربة أن ذهاب المرأة إلى المسجد لصلاة التراويح والجمعة ونحوها، يؤثر في نفسيتها واتجاهها، ويحفزها إلى خير كثير.

-ومما يذكر هنا ما نرى بعض أهل الفتوى يصرون عليه إلى اليوم وهو ما يتعلق بثبوت الهلال برؤية العين المجردة، والإعراض عن استخدام المراصد والأجهزة الحديثة، وإهمال ما يقطع به علماء الفلك الثقات الذين يجمعون على عدم إمكان رؤية الهلال في ليلة معينة، لعدم ولادته فلكيا في أي مكان في العالم شرقه أو غربه، هذا مع تقدم علم الفلك في عصرنا تقدما مذهلا، تم على أساس الصعود إلى القمر.

-وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، بل جاء عن الرسول نفسه ما يشهد برعاية هذا الأصل.

روى ابن أبي شيبة يسنده: أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا، إلى النار! فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، فما بال هذا اليوم؟ قال: إني أحسبه مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا، فبعثوا في أثره، فوجدوه كذلك”.

-رأى حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما ـ في عيني هذا الرجل الحقد والغضب، والتوثب للقتل، وإنما يريد الفتوى تفتح له باب التوبة بعد أن يرتكب جريمته، فقمعه وسد عليه الطريق، حتى لا يتورط في هذه الكبيرة الموبقة، ولو رأى في عينيه صورة امرئ نادم على ما فعل، لفتح له باب الأمل.

-وقد روى سعيد بن منصور عن سفيان قال: كان أهل العلم إذا سئلوا عن القاتل قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلى رجل (أي قتل بالفعل) قالوا له: تب.

-وفي المعنى ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة: أن رجلا سأل النبي عن المباشرة للصائم، فرخص له، وأتاه آخر فسأله، فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه شاب.

-وأشهر من ذلك أن النبي كان يجيب عن السؤال الواحد بأجوبة مختلفة، وذلك لاختلاف أحوال السائلين.

فهو يجيب كل واحد بما يناسب حاله، ويعالج قصوره أو تقصيره، فقد وجدنا من يسأله عن وصية جامعة، فيقول له: لا تغضب، وآخر يقول له: قل: آمنت بالله، ثم استقم.

وآخر يقول له: كف عليك لسانك.

وهكذا يعطي كل إنسان من الدواء ما يرى أنه أشفى لمرضه، وأصلح لأمره، فهذا ـ وما سبق ـ أصل في تغير الجواب أن الفتوى بتغير أحوال السائلين.

ولهذا يجب أن يلاحظ المفتي في فتواه الظروف الشخصية للمستفتي ـ نفسية واجتماعية ـ والظروف العامة للعصر والبيئة.

-فرب فتوى تصلح لعصر ولا تصلح لآخر، وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره، وقد تصلح لشخص في حال، ولا تصلح له نفسه في حال أخرى.