وردت أحاديث عن رسول الله – ﷺ- تفيد نزول الحجر الأسود من الجنة وهي أخبار آحاد مترددة بين الصحة والحسن، ومن أنكر نزول الحجر الأسود من الجنة، فلا يقدح ذلك في عقيدته لاختلاف العلماء في إفادة خبر الآحاد العلم واليقين، ويستحب تقبيل الحجر الأسود والبكاء عنده.
الحجر الأسود ونزوله من الجنة:
بقول فضيلة الشيخ عطية صقر-رحمه الله تعالى- رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر :
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم” رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، إلا أنه قال “أشد بياضًا من الثلج” وروى الطبراني في معجمه الأوسط ومعجمه الكبير مثله بإسناد حسن وكذلك البيهقي.
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: نزل الركن الأسود من السماء فوضع على أبي قبيس “جبل” كأنه مهاة بيضاء -أي بلورة- فمكث أربعين سنة ثم وضع على قواعد إبراهيم. رواه الطبراني في معجمه الكبير موقوفًا على عبد الله بن عمرو بإسناد صحيح، أي ليس مرفوعًا إلى النبي -ﷺ.
وجاء في الروايات التاريخية أن إبراهيم -عليه السلام- طلب حجرًا مميزًا يضعه في البيت فجاءه به جبريل عليه السلام.
نأخذ من مجموع هذه الروايات أن الحجر الأسود من الجنة، وأنه كان أبيض فسودته خطايا بني آدم، لكن درجة الأحاديث مترددة بين الصحة والحسن، وهي على كل حال لم تبلغ درجة التواتر، فهي أحاديث آحاد. ولو كانت صحيحة فإن هناك خلافًا بين العلماء في إفادة حديث الآحاد الصحيح القطع والعلم اليقين.
وما دام لا يوجد ما يمنع تصديق هذه الأحاديث فلنصدقها، ومع ذلك فإن من لم يصدقها لا يخل ذلك بعقيدته، ولا يخرجه من الإيمان إلى الكفر.
هذا، وقد نشر في “الأهرام” الصادر في يوم الجمعة بتاريخ 8/10/1982م بقلم محمد عبده الحجاجي مدير إدارة بالمكتبة المركزية بجامعة القاهرة أن الحجر الأسود من السماء وسقوط الأحجار من السماء ظاهرة كونية معروفة ومؤكدة، وقد قام العالم البريطاني “ريتشار ديبرتون” برحلة إلى الحجاز متخفيًا في زي مغربي، مدعيًا أنه مسلم وكان يجيد اللغة العربية، واندس بين الحجاج واستطاع أن يحصل على قطعة من الحجر، وحملها معه إلى لندن، وبدأت تجاربه عليها في المعامل الجيولوجية، فتأكد أنه ليس حجرًا أرضيًا، بل هو من السماء، وسجل هذا في كتاب له بعنوان “الحج إلى مكة والمدينة” الذي صدر بالإنجليزية في لندن سنة 1856م.
وسواء أكان الحجر من السماء أم لم يكن فإن الثابت أنه حجر مبارك قبله النبي -ﷺ- وثبت في البخاري ومسلم أن عمر -رضي الله عنه- قبله اقتداء بالرسول مقسمًا أنه لا يضر ولا ينفع، ورويت أحاديث غير قاطعة تدل على أن استلامه بمثابة عهد مع الله على الطاعة.
روى الحاكم وصححه أن النبي -ﷺ- قبل الحجر الأسود وبكى طويلا، ورآه عمر فبكى لما بكى، وقال “يا عمر هنا تسكب العبرات” وثبت أن عمر -رضي الله عنه- قال وهو يقبله: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -ﷺ- يقبلك ما قبلتك. رواه البخاري ومسلم.
والتقبيل سنة عند الاستطاعة وبدون إضرار بالناس، وقد قال النبي -ﷺ- لعمر “يا أبا حفص، إنك رجل قوي فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إذا وجدت خلوة فاستلم، وإلا فكبر وامض” رواه الشافعي في سنته.
ما هو السر في اهتمام النبي -ﷺ- بتقبيل الحجر الأسود والبكاء عنده؟
قد يقال: إن الحجر هو الجزء الباقي بيقين من أحجار الكعبة التي بناها أبوه إبراهيم -عليه السلام- فالرسول يكرم هذا الأثر، ويتذكر به أصوله الأولى وما قاموا به من أمجاد وتضحيات هيأت لولادته وبعثته حول هذا الأثر الباقي وهو الكعبة.
وقد يقال: إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقبله متذكرًا إكرام الله له وتهيئته من الصغر ليكون رسول هذه الأمة، حيث فصل في نزاع خطير بين القبائل من أجل نيل الشرف بوضع الحجر الأسود في مكانه عند تجديد بناء الكعبة قبل البعثة حيث ارتضوه -وهو الأمين- حكمًا في هذا النزاع، فأشركهم في حمله بثوب، ثم أخذه بيده ووضعه في مكانه، إنه شرف جدير بالاعتزاز به، يتذكره الرسول بعد سنوات طويلة ترك فيها مكة وحرمه أهلها من زيارة البيت، حتى مكنه الله منه بعد أن انتصر وعز، ورفع الله ذكره.
كل ذلك يمكن أن يكون حيثيات للاهتمام الزائد من النبي -ﷺ- بهذا الحجر، مع العلم بأن تقبيل الحجر ليس عبادة له أبدًا، فالعبادة لله وحده، كما أن الطواف بالبيت ليس عبادة للبيت، بل لله -سبحانه- الذي أمر به في قوله {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29] وقال في امتنانه على قريش {فليعبدوا رب هذا البيت} [قريش: 3] فتقبيل الحجر ليس عبادة له، ولو كان فيه خطأ لم يقر الله رسوله عليه أبدًا، والله لا يقر أحدًا على شرك في عبادته.
وشعور عمر عند تقبيل الحجر هو شعور الموحد لله -سبحانه- والمقتدي بالرسول -ﷺ- فإن الاقتداء به مطلوب، وشعور الرسول بتقبيله هو أيضًا شعور الموحد لله -سبحانه- المعترف الشاكر لنعمه عليه وعلى أبيه إبراهيم -عليه السلام- وشعور المشتاق للجنة، فقد قيل: إن الحجر من الجنة وكان أبيض فسودته خطايا بني آدم، وإن لم يكن الخبر قطعي الثبوت كما قدمنا.
فالرسول -ﷺ- بكل هذه المشاعر والأحاسيس يقبل الحجر الأسود، وهو في قمة التوحيد لله وإخلاص العبادة له سبحانه.