حكم الكلام في الغيبيات عن ليلة النصف من شعبان:
قال ـ تعالى ـ في أول سورة الدخان : (إنَّا أنْزَلْنَاهُ في ليلةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فيهَا يُفْرَقُ كلَّ أمْرٍ حَكِيمٍ أمْرًا مِن عِنْدِنَا إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إنَّهُ هُوَ السميعُ العليمُ). (أول سورة الدخان)، هذه إحدى آيات ثلاثٍ، جاءت في القرآن تتحدث عن إنزاله وعن الزمن الذي أنزل فيه، والآية الثانية هي قوله ـ تعالى ـ: (إنَّا أنْزَلْناهُ في ليلةِ القدْر) والآية الثالثة قوله ـ تعالى ـ: (شهْرُ رمضانَ الذِي أُنْزِلَ فيهِ القُرْآنُ).
وهدف الآيات الثلاث تأكيد أن القرآن لم يكن ـ كما كان يزعم مُنكرو الرسالة ـ مِن صُنع محمد، وإنما هو مِن عند الله، أنزله بعِلْمه وحِكْمته هُدًى للناس وبيِّنات مِن الهدى والفرقان.
وقد وصفت الآية الأُولى الليلة التي أُنزل فيها (ليلةٍ مُباركةٍ) وهي الصِّفَةُ التي وُصِفَ بها القرآن في قوله ـ تعالى ـ: (وهذَا كِتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصِدِّقُ الذي بيْنَ يدَيْهِ ولِتُنْذِرَ أمَّ القُرَى ومَن حَوْلَهَا). وسُمِّيَتْ في الآية الثانية بـ: (ليلةِ القَدْرِ). وهو الشرَف وعُلُوُّ المكانة، وبيَّنتِ الآية الثالثة أن شهر تلك الليلة هو شهر رمضان، الذي فَرَضَ الله على المؤمنين صوْمَهُ، تَذْكِيرًا بنِعْمَةِ إنزالِ القرآن وشُكْرًا لله عليها.
الروايات والآراء:
ومع وُضوح الاتِّساق بين هذه الآيات الثلاث هكذا وتَسانُدها، وشدِّ بعضها أزْرَ بعض في تقرير أن القرآن أنزله الله على الناس في ليلة مُباركة، ذات قدْر وشرَفٍ، وأنَّ رمضان هو شهر تلك الليلة، مع وُضوح هذا نرى الروايات والآراء خَلقت في كتب التفسير حول هذه الآيات جَوًّا اصطرعت فيه اصطراعًا أثارَ على الناظرين في القرآن غُبارًا طَمَسَ عليهم مِحْوَرَهَا الذي تَدُورُ عليه، وباعدتْ بينها في الهدف الذي ترمي إليه.
وكان من ذلك ما قيل وذاعَ بين الناس أن “الليلة المباركة” في الآية الأولى، وهي “ليلة النصف مِن شعبان” وأن الأمور الحكيمة التي تُفرَق فيها هي الأرزاق والأعمار وسائر الأحداث الكونية التي يقدرها الله، ثم يظهر ما يقع منها في العام للمنفذين من الملائكة الكرام!! ويمتد الكلام إلى التفرقة بين التقدير الذي يحصل في تلك الليلة والتقدير الذي يروى أيضًا عن ليلة القدر، ثم إلى الفرق بين كل من هذين التقديرين اللذين يحصلان في هاتين الليلتين: “ليلة النصف وليلة القدر” وبين التقدير الأزلي لهذه الأحداث يمتد الكلام في الفرق بين هذه التقديرات الثلاثة بما أعتقد ويعتقد كل مؤمن أنه خوض في أمر محجوب، وهجوم على غيوب استأثر الله بعلمها ولم يرد بها نص قاطع من قبله.
اعتقاد الناس في ليلة النصف من شعبان:
حكم الدعاء المخصوص في ليلة النصف من شعبان:
والذي صحَّ عن النبي ـ ﷺ ـ وحُفظت روايتُه عن أصحابه، وتلقَّاه أهل العلم والتمحيص بالقَبول إنما هو فقط فضل شهر شعبان كله، لا فرق بين ليلة وليلة، وقد طلب فيه على وجهٍ عام الإكثار من العبادة وعمل الخير، وطلب في الإكثار من الصوم على وجه خاصٍّ، تدريبًا للنفس على الصوم، وإعدادًا لاستقبال رمضان، حتى لا يُفاجأ الناس فيه بتغيير مأْلُوفهم فيَشُقُّ عليهم. وقد سُئل النبي ـ ﷺ ـ: “أيُّ الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: شعبان لتعظيم رمضان. وتعظيم رمضان إنما يكون بحُسن استقباله والاطمئنان إليه بالتدرُّب عليه وعدم التبرُّم به. أمَّا خصوص ليلة النصف والاجتماع لإحيائها وصلاتها، ودعاؤها فإنه لم يرِد فيها شيء صحيح عن النبي ـ ﷺ ـ ولم يعرفها أحدٌ من أهل الصدر الأول.
ونسوق هنا ما كتبه الشيخ الإمام عن: “الليلة المباركة” في تفسيره “جزء: عمَّ” قال أجزل الله ثوابه :
أما ما يقوله الكثير من الناس ـ من أن الليلة المباركة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان، وأن الأمور التي تُفرق فيها هي الأرزاق والأعمار، وكذلك ما يَقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر ـ فهو من الجُرأة على الكلام في الغيب بغير حُجة قاطعة، وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك ما لم يرِد به خبرٌ مُتواتر عن المعصوم ـ ﷺ ـ ومثل ذلك لم يرِد؛ لاضطراب الروايات وضعف أغلبها، وكذِب الكثير منها، ومثلها لا يصحُّ الأخذ به في باب العقائد. ومثل ذلك يقال في بيت العِزَّةِ، ونُزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة، فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين لعدَم تواتر خبَرِه عن النبي ـ ﷺ ـ ولا يجوز لنا الأخْذ بالظن في عقيدة مثل هذه وإلا كنا من الذين قيل فيهم: (إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ) نعوذ بالله. وقد وقع المسلمون في هذه المُصيبة، مُصيبة الخلْط بين ما يصحُّ الاعتقاد به من غيب الله ويُعَدُّ من عقائد الدين، وبين ما يظنُّ به للعمل على فضيلة من الفضائل.