وقوف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند نصوص الكتاب والسنة :

إن عمر بن الخطاب ـ كغيره من فقهاء الصحابة ـ كان وَقَّافًا عند نصوص الكتاب والسنة، لا يُقَدِّم عليهما رأيه ولا رأي غيره، ما دام الحكم قد استبان له من النص، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات: 1).
ولهذا كان مما وصف به عمر: أنه كان وَقَّافًا عند كتاب الله (روى ذلك البخاري).

من وقائع وقوف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند نصوص الكتاب والسنة :

وهذه بدهية تاريخية تَشْهد لها وقائع لا تُحْصَر من سيرة عمر.
(أ) من ذلك: الحادثة الشهيرة التي رَدَّت فيها المرأة عليه وهو يخطب فوق المنبر، محاولاً تحديد المهور، مستشهدًا بمهور بنات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأزواجه، فما كان إلا أن عارضته امرأة في المسجد بقوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (النساء: 20) وما كاد عمر يسمع هذه الآية من المرأة حتى رجع عن رأيه قائلاً كلمته الشهيرة: أصابت المرأة وأخطأ عمر (ذكر الواقعة ابن كثير، وعزاها إلى أبي يعلى في مسنده عن مسروق، وقال: إسناده جيد قوي. كما عزاها إلى ابن المنذر أيضًا “ج 1/467).
هذا مع أن الآية الكريمة ليست نَصًّا صريحًا في القضية، ويمكن أن يُحْمَل ذكر القنطار فيها على المبالغة. فالمبالغة أحيانًا تكون بالتكثير كما هنا، وأحيانًا تكون بالتقليل كما في حديث أبي بكر: “والله لو منعوني عقالاً كانوا يُؤَدُّونَه لرسول الله لقاتلتهم عليه”.
ورغم هذا، عدل عن رأيه في التحديد، لِمَا لاح له من ظاهر الآية.

(ب) روى محمد بن إبراهيم التيمي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: “أصبح أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم أن يعوها، وتفلتت منهم أن يَرْوُوها، فاستبقوها بالرأي”.
وروى عنه حرقة بن أبي عبد الله أنه قال: “أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم”.
وقد روى هذا المعنى عن عمر من عدة طرق بأسانيد في غاية الصحة، كما قال العلامة ابن القيم (إعلام الموقعين ج 1 ص 55)

(جـ) وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: “أيها الناس، اتهموا الرأي في الدين، فلقد رأيتني وأني لأرد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ برأيي، فأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل، والكتاب يكتب، وقال: اكتبوا: “بسم الله الرحمن الرحيم” فقال: يَكْتُب: “باسمك اللهم” فرضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأَبَيْتُ. فقال: يا عمر، تراني قد رضيت وتأبى؟! (إعلام الموقعين ج 1 ص 55ـ56).

(د) وروى الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح “القاضي”:
“إذا حضر أمر لابد منه، فانظر ما في كتاب الله، فاقْضِ به. فإن لم يكن، ففيما قضى به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن لم يكن فأنت بالخِيَار، فإن شئت أن تجتهد رأيك، فاجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامراني، ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرًا لك، والسلام.

(هـ) وفي معاملة المجوس، وتحديد علاقة الدولة الإسلامية بهم لم يَدْرِ عمر ما يصنع بهم، وكيف يعاملهم، حتى روى له عبد الرحمن بن عوف، أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ الجزية من مجوس البحرين، فعمل به.

(و) وأراد قسمة مال الكعبة، حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يفعل ذلك، فأمسك.

(ز) وكان يرد النساء اللواتي حضن “في الحج” ونفرن قبل أن يودعن البيت، حتى أخبر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رخص للحائض في ترك طواف الوداع، فأمسك عن ردهن، اتباعًا لأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم.

(ح) وكان يفاضل بين ديات الأصابع ـ على أساس تفاوتها في المنافع ـ حتى بلغه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المساواة بينها، فترك قوله وأخذ بالمساواة.

(ط) وكان يرى الدية للعصبة فقط، وأن المرأة لا تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زوجها، فلما أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَرِثَ المرأة بالدية، رجع عن قوله.

(ي) وأراد رجْم مجنونة، حتى أُعلم بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: “رفع القلم عن ثلاث..” فأمر ألا ترجم.

(ك) وأنكر على حسان الإنشاد في المسجد، فأخبره هو وأبو هريرة: أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسكت عمر.

(ل) وهم بترك الرَّمَل في الطواف “والرمل: سرعة المشي مع تقارب الخُطَا” ثم ذكر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعله فقال: لا يُحَبُّ لنا تركه” (انظر: الإحكام في أصول الأحكام لان حزم ج 1 ص 144، 145).

هذا هو عمر، وهذه مواقفه أمام النصوص ـ التي لم يصل معظمها إلى مرتبة القطعية ـ اتباع والتزام، ونزول عن رأيه إلى مقتضاها، فكيف يقال: إنه علق نصوصًا قطعية بمجرد رأيه واجتهاده؟!!.