زيارة الرسول الكريم تَعنِي التواجُد في المدينة المنوَّرة والصلاة في المسجد النبوي تشريف، والتشرُّف بالسلام على سيد الأولين والآخرين.
أما المدينة ففضلها عظيم ومكانتها كبيرة ومنزلَتُها في الدِّين رفيعة، فهي مُلتَقَى المهاجرين والأنصار، وفيها تأسَّست الدولة الإسلامية، ومنها خرجت جيوش الرحمن وكتائب الإسلام تنشُر نور الله في كل مكان.
وقد أخبر الصادق المصدوق ـ ﷺ ـ أنه لا يدخلها الطاعون ولا الدجَّال، وأن الإيمان يأرِزُ إلى المدينة كما تَأرِز الحيةُ إلى جُحرها، وأنها تنفي الناس كما ينفي الكيرُ خبَثَ الحديد، وأن المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
وعن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة التفت إليها فبكى ثم قال لمَن معه: يا مزاحمُ، أتخشى أن تكون ممن نفتِ المدينة؟!
ومسجد رسول الله ـ ﷺ ـ هو خير مسجد بعد المسجد الحرام، وأحد المساجد الثلاثة التي تُضاعَف فيها الصلاة، ويُسعَى إليها من آفاق الأرض، قال ـ عليه الصلاة السلام: “لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد الأقصى”.
وقال: “صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام”. وبالمسجد النبوي الروضة الشريفة، وفي فضلها ورد الحديث الشريف: “ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة”.
أما القبر الذي يضم الجسد الشريف فهو في الأصل حجرة السيدة عائشة؛ لأن الأنبياء يُدفَنُون حيث يموتون، وقد انتقل الرسول ـ ﷺ ـ إلى الرفيق الأعلى وهو في حجرة أم المؤمنين عائشة مستندًا إلى صدرها، وقد أصغت إليه يقول: اللهمَّ اغفرْ لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى.
وفي موطأ الإمام مالك عن يحيى بن سيعد أن عائشة زوج النبي ـ ﷺ ـ قالت: رأيتُ ثلاثةَ أقمار سقطتْ في حجرتي فقصصتُ رؤياي على أبي بكر الصدِّيق، قالت: فلما توفي رسول الله ـ ﷺ ـ ودُفِن في بيتها قال لها أبو بكر: هذا أحد أقمارِك وهو خيرُها”.
والأدب في الزيارة والتشرُّف بالسلام على المصطفى الأمين أن يبدأ المسلم بصلاة تحية المسجد في الروضة الشريفة أو في أي مكان خالٍ من المسجد، ثم يتقدم إلى القبر الشريف من ناحية القِبْلة بأدب وسكينة وخشوع، ويقف تلقاء القبر بوجهه ويقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولا حرج أن يتوسع بذكر بعض أوصافه وأحواله ـ ﷺ.
ثم يتقدم إلى جهة يمينه قَدْر ذراع ليواجه الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فيسلم عليه، ثم يتقدم قَدْر ذراع أخرى ليواجه الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ فيسلم عليه، وإذا أراد الزائر أن يدعو لنفسه بعد ذلك فليستقبل القبلة ولا يستقبل القبر.
وجاء في بعض الروايات أنه كان أصحاب النبي ـ ﷺ ـ إذا خلا المسجد جلسوا برمانة المنبر التي تلقاء القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون” وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي ـ ﷺ ـ السلام على أبي بكر، السلام على أبي” ثم ينصرف.
وفرق بعض العلماء بين أهل المدينة والقادمين عليها من الآفاق:
فقال الإمام مالك: وليس يلزم مَن دخل المسجد من أهل المدينة الوُقوف بالقبر، وإنما ذلك للغُرَباء.
وقال أيضًا، كما نقل ذلك الإمام ابن تيمية في الفتاوى:
ولا بأس لمَن قَدِم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي ـ ﷺ ـ فيصلى عليه ويدعو له، ولأبي بكر وعمر.
قال ابن القاسم: ورأيتُ أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتَوا القبر فسلَّموا، ذلك كله تحيةً للنبي ـ ﷺ ـ وتشرفًا بالسلام عليه.
وهذا التفريق بين أهل المدينة والقادمين يتبعه تفريق آخر في حكم التنفل في مسجد الرسول ـ ﷺ. فالمعلوم فقهًا أن صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة، لكن الإمام مالكًا قال: “والتنفل فيه للغرباء أحب إليَّ من التنفل في البيوت”.
ومما يجب التنبيه إليه أن نتذكر حديث الرسول الأمين: “اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدَ”. نحب رسول الله ـ ﷺ ـ في صورته المِثالية، والالتزام الكامل بسنته وهَدْيه.
وروى سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي رأي رجلاً يُكثِر الاختلاف إلى قبر النبي ـ ﷺ ـ فقال له: “يا هذا، إن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني، فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء”.