ذهب جمهور العلماء إلى عدم نقض الوضوء من أكل لحوم الإبل، في حين ذهب أحمد بن حنبل ونفر معه إلى أن ذلك ينقض الوضوء ، ورجح غير واحد من العلماء المذهب الأول ، وحسب هذا المذهب أن الخلفاء الأربعة عليه .
وكذلك الصلاة في مبارك الإبل فيها الخلاف السابق فحمل بعض الفقهاء النهي على التحريم وحمله بعضهم على الكراهة وهو الراجح.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :-
من النواقض المختلف فيها: أكل لحم الإبل فقد ذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية، ويحيى بن يحيى إلى أن ذلك ينقض الوضوء. وحكاه ابن المنذر عن جابر بن سمرة الصحابي، ومحمد بن إسحاق، وأبي ثور، وأبي خيثمة.
واختاره من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر، وأشار البيهقي إلى ترجيحه والذب عنه، وقواه النووي في المجموع.
وحجة هذا القول: ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرة: أن رجلا سأل رسول الله ﷺ: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ ” قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل . رواه مسلم من طرق.
وعن البراء: سئل النبي ﷺ عن الوضوء من لحوم الإبل، فأمر به.
قال أحمد وإسحاق: صح في هذا حديثان: حديث جابر وحديث البراء.
وهناك قول بالوضوء مما مست النار أي من اللحوم المطبوخة بصفة عامة. وليس المراد: الخبز المخبوز في النار، أو الخضروات المطهوة في النار.
وهو قول عمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وأبي قلابة وأبي مجلز، وحكاه ابن المنذر عن جماعة من الصحابة: ابن عمر وأبي طلحة وأبي موسى وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة، رضي الله عنهم.
وحجتهم ما رواه مسلم عن زيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة: ” توضأوا مما مست النار .
والقول الثالث: أنه لا يجب الوضوء بأكل أي شيء، سواء مسته النار أم لم تمسه، لحم الإبل أم غيره.
قال النووي: وبه قال جمهور العلماء، وهو محكي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي طلحة، وأبي الدرداء، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأبي أمامة، رضي الله عنهم. وبه قال جمهور التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي.
وحجتهم: ما رواه جابر بن عبد الله: “كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ: ترك الوضوء مما مست النار”. قال النووي: حديث جابر صحيح. رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة.
واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس: ” أن النبي ﷺ أكل كتف شاة، ثم صلى، ولم يتوضأ ” رواه البخاري ومسلم.
وعن عمرو بن أمية الضمري قال: ” رأيت النبي ﷺ يحتز كتف شاة يأكل منها، ثم صلى ولم يتوضأ ” رواه البخاري ومسلم من طرق.
وعن ميمونة: أن النبي ﷺ أكل عندها كتفا، ثم صلى ولم يتوضأ. رواه مسلم.
وعن أبي رافع قال: ” أشهد لكنت أشوي لرسول الله ﷺ بطن الشاة، ثم صلى، ولم يتوضأ “. رواه مسلم.
قال النووي: وعن جابر وعائشة وأم سلمة مثله.
قال البيهقي وغيره: وفي الباب عن عثمان وابن مسعود، وسويد بن النعمان، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمغيرة، وأبي هريرة، وعبد الله بن الحارث، ورافع بن خديج، وغيرهم.
قال الشيرازي: ولأنه إذا لم ينتقض بأكل لحم الخنزير ـ وهو حرام ـ فلأنْ لم ينتقض بغيره أولى.
وعن علي وابن عباس أنهما قالا: ” الوضوء مما خرج، وليس مما دخل “. وكأنهما يشيران إلى قاعدة استنبطاها من النصوص التي وردت في نقض الوضوء.
وعمدة الجمهور في الاحتجاج: حديث جابر: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، و(ما) للعموم، أي من كل ما مسته النار، سواء: كان لحم إبل أم غيره.
قيل: ولكن هذا لا يرد على الحنابلة، لأنهم يقولون: ينتقض بأكله نيئا.
ورد الجمهور بأنه محمول على أكله مطبوخا، لأنه الغالب المعهود.
وبعضهم حمل الوضوء في حديث جابر بن سمرة على المعنى اللغوي للكلمة، وهو النظافة، فيكون المقصود هنا: غسل اليدين والفم، قالوا: وخص لحم الإبل بذلك، لزيادة زهومته وثقله، وقد نهي الإنسان أن يبيت وفي يده، أو في فمه دسم، خوفا من الحشرات المؤذية، من عقرب ونحوها، وضعفوا هذا الجواب، لأن حمل الألفاظ على المعنى الشرعي مقدم على حملها على المعنى اللغوي. ورد الجمهور بأنهم لجأوا لذلك جمعا بين الأحاديث. ( انظر الذخيرة للقرافي)
ومن أبرز دلائل الجمهور: أن هذا القول ـ عدم النقض بأكل لحم الجزور ـ هو قول الخلفاء الراشدين جميعا: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وقول علماء الصحابة، بل قول جماهير الصحابة، كما قال النووي. ولا يعقل أن يكون أكل لحم الإبل ينقض الوضوء، ويخفى على هؤلاء، وهم ألصق الناس برسول الله، وأقربهم إليه، وأعرفهم بسنته، فكيف عاشوا مدة ثلاثين سنة بعد وفاته ولم يعرفوا هذا الحكم الذي يتعلق بشأن يتكرر كثيرا في حياتهم، وهو أكل لحم الإبل؟ ولذا قال النووي: وأقرب ما يُستراح إليه: قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة. ( انظر المجموع ) .
تحقيق القول في حديث الوضوء من لحم الإبل .
ثم إن الحديث الذي روي في الوضوء من لحم الإبل ـ وهو حديث جابر ابن سمرة ـ لم يرد بلفظ عام، وإنما سأل سائل، فأجيب بجواب خاص، فالحديث إذن في واقعة حال، ووقائع الأحوال لها خصوصيتها، فلا تنزل منزلة العموم في الأقوال.
وقد يحمل الأمر في قوله “توضأوا من لحوم الإبل” على الاستحباب لا على الوجوب، وهو متفق مع القاعدة التي اخترناها في (أصول الفقه الميسر)، وهي: أن الأمر في القرآن للوجوب، إلا أن يصرف عنه صارف، وأن الأمر في السنة للاستحباب، إلا أن يصرف عنه صارف، كما إذا اقترن بوعيد أو تشديد.
على أن هذا الحديث في الوضوء من لحوم الإبل ـ وإن رواه مسلم ـ لم يخل من كلام حول سنده، فقد ذكروا أن الإمام علي ابن المديني قال عن أحد رواته: جعفر بن أبي ثور ـ وهو راوي الحديث الوحيد عن جده جابر بن سمرة ـ: جعفر مجهول. ( انظر تهذيب سنن أبي داود لابن القيم ) وقد ردوا على ابن المديني. ولكن لا ينبغي إسقاط كلامه عن درجة الاعتبار، فإن الباحث يتساءل: كيف لم ينقل هذا الحديث عن جابر غير حفيده هذا؟ ولماذا لم ينقله غيره من التابعين وما أكثرهم؟!
وقد كان جابر بن سمرة من صغار الصحابة، وعاش إلى عهد عبد الملك ابن مروان، ومات في سنة 76هـ على أرجح الروايات، وقد عدّ له المزّي في (تهذيب الكمال) أربعة وعشرين راويا رووا عنه، فلماذا لم يرو عنه بعض هؤلاء هذا الحديث المهم؟ لماذا انفرد به جعفر وهو ليس من المكثرين عنه؟ ( انظر تهذيب الكمال )
وقد اختلف مترجمو جعفر هذا في نسبه، فقيل: جابر بن سمرة: جده من قبل أمه، وقيل: من قبل أبيه.
وقيل: إن اسم أبيه عكرمة، وقيل: مسلم، وقيل: سلمة. قال أبو أحمد الحاكم: ذكر عكرمة في نسبه ليس بمحفوظ.
وقال ابن حبان: جعفر بن أبي ثور، هو أبو ثور بن عكرمة، فمن لم يحكم صناعة الحديث توهم أنهما رجلان مجهولان.
وقد قال الحافظ في (تقريب التهذيب) في الحكم على جعفر هذا: مقبول، وهي آخر درجات التوثيق، ومعنى أنه مقبول: أي حيث يتابع، فإذا لم يتابع فليّن الحديث كما قال ابن حجر. ونلاحظ هنا: أنه لم يتابع أحد جعفرا في رواية هذا الحديث، على ما له من أهمية، وما ينفرد به من حكم!!
على أنا إذا سلمنا بصحة الحديث من ناحية سنده، ولم نتأول معناه بما تأوله الكثيرون من علماء السلف، بأن المراد بالوضوء فيه: المعنى اللغوي، وهو غسل اليد أو غسل الفم أو غسلهما معا، نظرا لغلظ لحم الإبل وحرارته، وشدة زهومته، بخلاف لحم الغنم، فهناك مخرج أخير من هذا الحديث، ومثله حديث البراء بن عازب عند أبي داود وغيره، وهو: أن الحديث منسوخ بحديث جابر بن عبد الله: كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ: ترك الوضوء مما مست النار. وقد رواه أصحاب السنن. قال الترمذي: وكأن هذا الحديث ناسخ لحديث الوضوء من النار.
قال الشيخ محمود خطاب السبكي- مؤسس الجمعية الشرعية- في كتاب المنهل العذب المورود: –
ولما كان لحم الإبل فردا مما مسته النار، وقد نسخ وجوب الوضوء منه بجميع أفراده، فاستلزم نسخ وجوبه من لحوم الإبل. فما قاله النووي من أن هذا الحديث عام، وحديث الوضوء من لحم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام: مدفوع، بأنا لا نسلم أن نسخه لكونه خاصا، بل لأنه فرد من أفراد العام الذي نسخ، وإذا نسخ العام ـ الذي هو وجوب الوضوء مما مست النار ـ نسخ كل فرد من أفراده، ومنه لحوم الإبل.
وما قاله الشوكاني في (نيل الأوطار): من أن فعله ﷺ (أي وكذا تركه): غير ناسخ للقول الخاص بنا، فمحله إذا قام دليل صريح على الخصوصية، ولا دليل هنا.
والقول بأن الخاص مقدم على العام، وليس منسوخا به: إنما يتمشى على رأي من يقول بتقديمه عليه، ولو تأخر العام. أما على رأي من يقول: إن العام المتأخر ناسخ، فيكون حديث ترك الوضوء مما مست النار: ناسخا لأحاديث الوضوء من أكل لحوم الإبل.
ويقول فضيلة الشيخ عطية صقر ـ رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر ـ رحمه الله ـ :
أما الصلاة في مبارك الإبل فهي حرام عند أحمد، وقال: لا تصح، فإن صلى فعليه الإعادة، وسئل مالك عمن لا يجد إلا عطن إبل هل يصلي فيه؟ فقال: لا يصلي فيه، قيل: فإن بسط عليه ثوباً؟ قال: لا، وقال ابن حزم: لا تحل في عطن إبل.
أما جمهور الفقهاء فقالوا: إن الصلاة تصح في مبارك الإبل، وحملوا النهي على الكراهة إذا لم تكن هناك نجاسة، وعلى التحريم إن وجدت النجاسة، وليست علة قولهم هي النجاسة، فإنها موجودة في مرابض الغنم، بل لأن الإبل فيها نفور، فربما نفرت والإنسان يصلي فيؤدي نفورها إلى قطع الصلاة أو إلى أذى يحصل له منها، أو يشوش خاطره ويلهيه عن الخشوع، ويؤيد هذا التعليل حديث أحمد بإسناد صحيح “لا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت” أما الصلاة في مرابض الغنم فهي جائزة بنص الحديث لعدم وجود العلة الموجودة في مبارك الإبل.
ويقول الدكتور محمد المسير الأستاذ بجامعة الأزهر :
جمهور العلماء سلفًا وخلفًا على أنه لا يجب الوضوء من مأكول أو مشروب مَسَّته النار أم لا ، وسواء كان لحم إبل أو غيرها ، وقد استقر الشرع على أن المأكول مطلقًا ليس من نواقض الوضوء .
لكن للمسألة أصل دار حوله كلام للعلماء ، فقد وردت أحاديث صحيحة بالأمر بالوضوء عقب أَكْلِ ما مَسَّته النار أو أَكْلِ لحوم الإبل ، وقد حملها جمهور العلماء على بادئ الأمر وأول التشريع ثم اعتراها النسخ ، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبيّ ـ ﷺ ـ أكل عرقًا أو لحمًا ثم صلى ولم يتوضأ ولم يَمَسَّ ماء .
وهناك من العلماء من حمل أحاديث الوضوء مما مسَّت النار أو من لحوم الإبل على الوضوء اللغويّ ، وهو النظافة ، بغسل الفم والكفين بعد الأكل وقبل الصلاة لئلا تبقى في الفم بقايَا يَبتلعها حال الصلاة ، وإلى هذا الإشارة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ ـ ﷺ ـ شرب لبنًا ثم دعا بماء فتمضمض وقال : “إن له دَسَمًا” .
ومن العلماء من حمل أحاديث الوضوء مما مسَّت النار أو من لحوم الإبل على الندب ؛ بمعنى أنه من الأفضل بعد تناول الطعام المطهوِّ الوضوءُ للصلاة ..هذا وقد قال بنقض الوضوءِ الإمامُ أحمد بن حنبل وبعضُ علماء الحديث .
وقال بعض العلماء:
إن قيل ما سبب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل وإجازة الصلاة في مرابض الغنم فيقال: إن العلة ليست النجاسة، ولو كانت العلة هي النجاسة لم يكن هناك فرق بين الإبل والغنم، ولكن العلة شيء آخر. فقيل: الحكم تعبدي، أي غير معقول المعنى لنا.وقيل: إنه يخشى إن صلى في مباركها أن تأوي إلى هذه المبارك، وهو يصلي، وتشوش عليه صلاته؛ لكبر جسمها.
وقيل: إن الإبل خلقت من الشياطين، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجة (769)، وأحمد (20541) وانظر سنن أبي داود (493) وليس معناه أن مادة خلقها من الشياطين، ولكن من طبيعتها الشيطنة، فهو كقوله – تعالى – : ( خلق الإنسان من عجل) الآية، [الأنبياء : 21] يعني: طبيعته هكذا، ولذلك شرع لنا الوضوء من لحمها بخلاف غيرها، وقد ورد في بعض الأحاديث، وفيها ضعف: أن ” على ظهر بعير شيطاناً ” رواه أحمد (16039) والدارمي (2709).
فيكون مأوى الإبل ومعاطنها مأوى للشياطين، فهو يشبه النهي عن الصلاة في الحمام، انظر ما رواه الترمذي (346) وابن ماجة (746)؛ لأن الحمامات بيوت الشياطين، ثم إنه قد أذن في شرب أبوالها، انظر ما رواه البخاري (233)، ومسلم (1671)، وهو أغلظ من الصلاة في مباركها، فلا يكون في هذا دليل على نجاسة ما يؤكل لحمه.