يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله- :
لا خلاف بين المسلمين في أن الإنسان يبعث في الآخرة كما كان في الدنيا أي أن حقيقته لا تتبدل فتخرج عن الإنسانية إلى حقيقة أخرى , بيد أنه يكون في الجنة أرقى مما كان في الدنيا فتكون حياته دائمة سليمة من العلل, ومتى كان الإنسان إنسانًا فلا وجه لاستنكار أكله وشربه وغشيان أحد زوجيه للآخر حقيقة , وقد جاءت الآيات صريحة في ذلك فلا وجه لإخراجها عن ظاهرها وتحريفها عن معانيها اتباعًا للهوى والرأي .
نعم ، قد دلت النصوص المأثورة من الآيات والأخبار والآثار أن جميع ما في الجنة من النعيم هو أرقى مما في الدنيا وأن حقيقته غيبية ، ما رأت مثلها عين ولا سمعت بمثلها أذن ولا خطرت على قلب بشر , ولكن ذلك لا يمنع أن تكون حقيقة جامعة بين اللذة البدنية واللذة الروحية ؛ لأن الإنسان بدن وروح .
وإنني لا أعرف سببًا لسريان شبهة فلاسفة اليونان والنصارى إلى نفوس بعض المسلمين في هذه المسألة إلا توهمهم أن اللذة الحسية نقص في الخلقة لا يليق بالعالم الآخر ! ولو عقلوا وحققوا لعلموا أنه ليس في الفطرة نقص , فداعية اللذة والتمتع بها من كمال الخلقة , ولكن لما كان الإنسان قد يسرف في تمتعه وقد يسوقه كسبه واختياره إلى الاعتداء على حق غيره ليتمتع به وكان ذلك ضارًا بنفسه وبمن يعيش معهم ؛ كان الإسراف والاعتداء مما نهت عنه الشرائع تأديبًا للإنسان وإيقافًا لقواه عند حدود الاعتدال حتى لا يبغي بعضها على بعض ولا يبغي بعض أصحابها على بعض , وعدّ الإسراف والعدوان من النقص لأنه يعوق الإنسان في أفراده ومجتمعه عن بلوغ الكمال الذي خلق مستعدًا له , وإنما يناله إذا اعتدل في استعمال جميع قواه مع مراعاة كل فرد لحقوق سواه .