فرض الله على المؤمنين خمس صلوات في اليوم والليلة، وبيَّن الرسول -ﷺ- بقوله وفعله أوقاتها فيهما؛ فحدد للصبح من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، وللظهر من زوال الشمس عن كبد السماء إلى صيرورة ظل كل شيء مثله أو مثيله، وللعصر من نهاية وقت الظهر إلى غروب الشمس، وللمغرب من غروب الشمس إلى غياب الشفق، وللعشاء من غياب الشفق حتى طلوع الفجر.
وفرق عليهم أيضًا صوم شهر هلالي من السنة، وبين أنه شهر رمضان، وقال -عليه السلام-: “الشهر هكذا أو هكذا” بإشارة تدل على أنه إما ثلاثون يومًا أو تسعة وعشرون يومًا.
ولا ريب أن بيان أوقات الصلاة في اليوم والليلة وبيان الشهر في السنة -على هذا الوجه الذي عرف وتناقله الناس جيلاً بعد جيل- إنما كان بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي تتجلى أوقاتها المحددة في اليوم والليلة، ويتجلى رمضانها في السنة، وهي القسم الأعظم من الكرة الأرضية.
ولم يكن معروفًا للناس في وقت التشريع أن في الكرة الأرضية جهات تكون السنة فيها يومًا وليلة: نصفها نهار ونصفها ليل، وجهات أخرى يطول نهارها حتى لا يكون ليلها إلا جزءاً يسيرًا، ويطول ليلها حتى لا يكون نهارها إلا جزءاً يسيرًا.
ولا ريب أن الجريان في هذه الجهات على بيان الأوقات التي عرفت للصلاة والصوم يؤدي إلى أن يصلي المسلم في يومه وليلته وهو “سنة كاملة” خمس صلوات فقط موزعة على خمس أوقات من السنة كلها، ويؤدي كذلك في بعض الجهات إلى أن تكون الصلوات المفروضة أربعًا أو أقل، على حسب طول النهار وقصره، وكذلك يؤدي إلى أن يكلف المسلم في تلك الجهات صوم رمضان ولا رمضان عنده، وفي بعضها يؤدي إلى صوم ثلاث وعشرين ساعة من أربع وعشرين ساعة، وكل هذا تكليف تأباه الحكمة من أحكم الحاكمين والرحمة من أرحم الرحماء. وإذن يجب استبعاد هذا الفرض.
ويدور أمر هذه الأقاليم بعد ذلك بين فرضين آخرين لا ثالث لهما: إما إعفاؤهم -كما ذهب إليه بعض الناظرين- من الصلاة والصوم؛ لعدم الوقت وعدم القدرة والإمكان، وعدم الفائدة المرجوة من التكليف، وهو فيما نرى فرض يأباه عموم النصوص التي جاءت بتكليف الصلاة؛ فالصوم لجميع المؤمنين دون فرق بين قطر وقطر.
وإذن لا يبقى طريق لقيامهم بواجبهم الديني -على وجه مقدور لهم ميسور عليهم ومحقق للفائدة المرجوة من التكليف- سوى أن يقدروا أيامهم ولياليهم وأشهرهم بحساب أوقات أقرب البلاد المعتدلة إليهم؛ أي حساب البلاد القريبة منهم، التي تتميز فيها الأوقات، ويتسع كل من ليلها ونهارها لما فرض من صوم وصلاة على الوجه الذي يحقق حكمة التكليف دون مشقة أو إرهاق.
ولا ريب أن أهل هذه الجهات لا بد أن يكونوا قد اتخذوا طريقًا لتقدير الأيام والأشهر فيما يختص بحياتهم العامة من أعمال وعقود.
وإذن فمن السهل أن يتخذوا في تحديد أوقات عبادتهم ما عرف في أقرب البلاد المعتدلة إليهم، خاصة بعد أن تطورت وسائل المواصلات وأدوات الاتصالات بهذه الصورة، حتى أصبح الحدث يكون في أقصى الكرة الأرضية فيراه من يعيشون في أقصاها في نفس وقت حدوثه، وبهذا يستطيعون أداء فروضهم الدينية من صلاة وصوم على وجه محدد كامل لا عسر فيه ولا إرهاق: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).