يحدد أولا من فهم الضرورة أو الحاجة الشديدة التي تنزل منزلة الضرورة فإن وجدت الضرورة أو الحاجة الشديدة التي تنزل منزلة الضرورة جاز الاقتراض من البنوك بالربا ويكون الإثم في هذه الحالة على المقرض لا المقترض، لكن كثيرا من الناس يتوسع في معنى الضرورة توسعا شديدا ومن ثم فلا بد من ضبط هذه المصطلح ضبطا جامعا مانعا.

معنى الضرورة وأقوال الفقهاء فيها:

يقول الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي-رحمه الله تعالى- في معنى الضرورة:
قال الجرجاني في تعريفاته: الضرورة مشتقة من الضرر وهو النازل بما لا مدفع له، وللضرورة تعاريف متقاربة المعنى عند أسلافنا الفقهاء، منها ما ذكره أبوبكر الجصاص عند الكلام عن المخمصة فقال: الضرورة: هي خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل.

وبمثل ذلك قال البزدوي: معنى الضرورة في المخمصة: أنه لو امتنع عن التناول يخاف تلف النفس أو العضو.
وعرفها الزركشي والسيوطي فقالا: هي بلوغه حداً إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقى جائعاً أو عرياناً لمات أو تلف منه عضو.

وقال المالكية: الضرورة هي الخوف على النفس من الهلاك علماً (أي قطعاً) أو ظناً، أو هي خوف الموت، ولا يشترط أن يصبر حتى يشرف على الموت وإنما يكفي حصول الخوف من الهلاك ولو ظناً.

قال الشافعية: من خاف من عدم الأكل على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً أو زيادته أو طول مدته أو انقطاعه عن رفقته أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب. ولم يجد حلالاً يأكله ووجد محرماً لزمه أكله.

وعرفها أستاذنا محمد أبو زهرة فقال: الضرورة: هي الخشية على الحياة إن لم يتناول المحظور، أو يخشى ضياع ماله كله، أو أن يكون الشخص في حال تهدد مصلحته الضرورية ولا تدفع إلا بتناول محظور لا يمس حق غيره.
وقال الأستاذ الزرقا: الضرورة أشد دفعاً من الحاجة، فالضرورة: هي ما يترتب على عصيانها خطر، كما في الإكراه الملجئ وخشية الهلاك جوعاً.

ولكن الذي يبدو من هذه التعاريف كلها أنها متجهة فقط نحو بيان ضرورة الغذاء، فهي قاصرة لا تشمل المعنى الكامل للضرورة على أنها مبدأ أو نظرية يترتب عليها إباحة المحظور أو ترك الواجب، لذا نقترح التعريف التالي لها:

الضرورة: هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها، ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع.

وميزة هذا التعريف أنه شامل جامع في تقديرنا كل أنواع الضرورة وهي: ضرورة الغذاء والدواء، والانتفاع بمال الغير، والمحافظة على مبدأ التوازن العقدي في العقود، والقيام بالفعل تحت تأثير الرهبة أو الإكراه، والدفاع عن النفس أو المال أو ونحوهما وترك الواجبات الشرعية المفروضة وهذا هو المعنى الأعم للضرورة أما معناها الخاص بدفع ضرر خارجي قاهر كالحريق أو ضرر داخلي كالجوع فليس هو فقط موطن بحثنا، وإن كان هو المعنى الشائع عند العلماء.

والاضطرار: دفع الإنسان إلى ما يضره وحمله عليه أو إلجاؤه إليه، والملجئ إلى ذلك إما أن يكون من نفس الإنسان، وحينئذ لابد أن يكون الضرر حاصلاً أو متوقعاً يلجئ إلى التخلص منه عملاً بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، الثابتة عقلاً وطبعاً وشرعاً، وإما أن يكون الملجئ من غيره نفس الإنسان كإكراه القوى ضعيفاً على ما يضره.

ضوابط الضرورة:

يفهم من التعريف الذي وضعناه للضرورة أنه لابد من تحقق ضوابط لها أو شروط فيها، حتى يصح الأخذ بحكمها وتخطي القواعد العامة في التحرير والإيجاب بسببها، وحينئذ يتبين أنه ليس كل من ادعى وجود الضرورة يسلم له ادعاؤه أو يباح فعله. وهذه الضوابط التي يراد بها تحديد معنى الضرورة بالمعنى الضيق هي ما يأتي:

1- أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة. وبعبارة أخرى أن يحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال وذلك بغلبة الظن حسب التجارب، أو يتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضروريات الخمسة التي ذكرناها والتي صانتها جميع الديانات والشرائع السماوية: وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال فيجوز حينئذ الأخذ بالأحكام الاستثنائية لدفع الخطر ولو أدى ذلك إلى أضرار الآخرين عملاً بقاعدة: “إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما” فإذا لم يخف الإنسان على شيء مما ذكر، لم يبح له مخالفة الحكم الأصلي العام من تحريم أو إيجاب.

2- أن يتعين على المضطر مخالفة الأوامر أو النواهي الشرعية أو ألا يكون لدفع الضرر وسيلة أخرى من المباحات إلا المخالفة بأن يوجد في مكان لا يجد فيه إلا ما يحرم تناوله، ولم يكن هناك شيء من المباحات يدفع به الضرر عن نفسه، حتى ولو كان الشيء مملوكاً للغير فلو وجد مثلاً طعاماً لدى آخر فله أن يأخذه بقيمته وعلى صاحب الطعام أن يبذله له.
ومن استطاع في الأحوال العادية أن يقترض من غيره بدون فائدة، فلا يجوز له إطلاقا الاقتراض بفائدة أو البيع بالربا.
وعند مخالفة الأوامر ينبغي أن يؤذن شرعاً للمضطر التحلل من الواجب.

3- أن يكون في حالة وجود المحظور مع غيره من المباحات أي في الحالات المعتادة عذر يبيح الإقدام على الفعل الحرام، وبعبارة أوجز أن تكون الضرورة ملجئة بحيث يخشى تلف النفس والأعضاء، كما لو أكره إنسان على أكل الميتة بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه، وعدم وجود الطيبات المباحات أمامه، أو يخاف إن عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة، أو عجز عن الركوب، هلك وقد صرح الشافعية والحنابلة أن كل ما يبيح التيمم يبيح تناول الحرام فيعتبر خوف حصول الشيء الفاحش في عضو ظاهر كخوف طول المرض مما يبيح كل منهما التناول من الحرام.

4- ألا يخالف المضطر مبادئ الشريعة الإسلامية الأساسية التي ذكرناها من حفظ حقوق الآخرين وتحقيق العدل وأداء الأمانات ودفع الضرر والحفاظ حقيقة على مبدأ التدين وأصول العقيدة الإسلامية، فمثلاً لا يحل الزنا والقتل والكفر والغصب بأي حال، لأن هذه مفاسد في ذاتها
ومن مخالفة مبادئ الشريعة: الصلح الدائم مع اليهود إذ لا يجوز الصلح مع الأعداء إلا على أساس قواعد عهد الذمة والتزام الأحكام الإسلامية كما لا يجوز إقرار الغاصب لبلادنا على غصبه، وكل ما يجوز هو الهدنة المؤقتة التي يجوز تمديد مدتها بحسب الضرورة أو الحاجة.

5- أن يقتصر فيما يباح تناوله للضرورة في رأي جمهور الفقهاء على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر،
لأن إباحة الحرام ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، وسنفصل الكلام عن هذا المعنى في قواعد الضرورة.

6- أن يصف المحرم – في حال ضرورة الدواء – طبيب عدل ثقة في دينه وعلمه، وألا يوجد من غير المحرم علاج أو تدبير آخر يقوم مقامه حتى يتوفر الشرط السابق: وهو ألا يكون ارتكاب الحرام متعيناً.

7- أن يمر ـ في رأي الظاهرية ـ على المضطر للغذاء يوم وليلة، دون أن يجد ما يتناوله من المباحات ، وليس أمامه إلا الطعام الحرام، وتحديد المدة على هذا النحو مأخوذ من الحديث الشريف السابق في إباحة أكل الميتة ومعناه “أن يأتي الصبوح والغبوق، ولا يجد ما يأكله” أي يأتي الصباح والمساء ولا يجد الإنسان طعامهما أو لبنهما المعتاد المعروف بالصبوح والغبوق.
والأصح أنه لا يتقيد الاضطرار بزمن مخصوص لاختلاف الأشخاص في ذلك.
قال الإمام أحمد: إن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل من الحرام، وذلك إذا كان المضطر يخشى على نفسه سواء أكان من جوع أو يخاف إن ترك الأكل من الميتة ونحوها، عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة، فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور.

8- أن يتحقق ولي الأمر – في حال الضرورة العامة – من وجود ظلم فاحش ، أو ضرر واضح ، أو حرج شديد ، أو منفعة عامة بحيث تتعرض الدولة للخطر، إذا لم تأخذ بمقتضى الضرورة وبناء عليه تسامح بعض الفقهاء في شئون العلاقات الخارجية أو التجارة الدولية ، فأجازوا مثلاً للدولة في تعاملها مع الأجانب دفع أتاوات سنوية لدفع خطر الأعداء ، أو من أجل المحافظة على كيان البلاد، كما أن بعض الفقهاء أجاز دفع فوائد ربوية عن قروض خارجية تمس إليها حاجة الدولة العامة.

9- أن يكون الهدف في حالة فسخ العقد للضرورة هو تحقيق العدالة أو عدم الإخلال بمبدأ التوازن العقدي بين المتعاقدين.  يقول الدكتور يوسف القرضاوي :- آكل الربا هو الدائن صاحب المال الذي يعطيه للمستدين فيسترده بفائدة تزيد على أصله، وهذا ملعون عند الله وعند الناس بلا ريب ولكن الإسلام على سنته في التحريم – لم يقصر الجريمة على آكل الربا وحده بل أشرك معه في الإثم مؤكل الربا – أي المستدين الذي يعطى الفائدة – وكاتب عقد الربا، وشاهديه.
وفي الحديث: ” لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه “. (رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة).

على من يكون الإثم عند أخذ القرض الربوي للضرورة:

وإذا كانت هناك ضرورة ملحة اقتضت معطى الفائدة، أن يلجأ إلى هذا الأمر فإن الإثم في هذه الحال يكون على آخذ الربا (الفائدة) وحده.

1– وهذا بشرط أن تكون هناك ضرورة حقيقية، لا مجرد توسع في الحاجيات أو الكماليات، فالضرورة هي الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها ، بحيث إذا فقدها الشخص أصبح معرضا للهلاك كالقوت والملبس الواقي والعلاج الذي لا بد منه.

2– ثم أن يكون هذا الترخيص بقدر ما يفي بالحاجة دون أي تزيد، فمتى كان يكفيه تسعة جنيهات مثلا فلا يحل له أن يستقرض عشرة.

3– ومن ناحية أخرى، عليه أن يستنفد كل طريقة للخروج من مأزقه المادي، وعلى إخوانه المسلمين أن يعينوه على ذلك، فإن لم يجد وسيلة إلا هذا، فأقدم عليه غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم.

4– وأن يفعل ذلك إن فعله وهو له كاره، وعليه ساخط، حتى يجعل الله له مخرجًا.

ومما ينبغي للمسلم أن يعرفه من أحكام دينه:-

-أنه يأمره بالاعتدال في حياته والاقتصاد في معيشته: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) سورة الأنعام:141، والأعراف:31، (ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) سورة الإسراء:26-27.

-وحين طلب القرآن من المؤمنين أن ينفقوا، لم يطلب إليهم إلا إنفاق بعض ما رزقوا لا كله، ومن أنفق بعض ما يكتسب فقلما يفتقر، ومن شأن هذا التوسط والاعتدال ألا يحوج المسلم إلى الاستدانة ، وخصوصا أن النبي  كرهها للمسلم، فإن الدين في نظر الرجل الحر هم بالليل ومذلة بالنهار، وكان النبي  يستعيذ بالله منه ويقول: “اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. وقال: “أعوذ بالله من الكفر والدين. فقال رجل: أتعدل الكفر بالدين يا رسول الله؟ قال: نعم”.
وكان يقول في صلاته كثيرا: “اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم (الدين) فقيل له: إنك تستعيذ من المغرم كثيرا يا رسول الله. فقال: إن الرجل إذا غرم (استدان) حدث فكذب ووعد فأخلف”.

فبين ما في الاستدانة من خطر على الأخلاق نفسها. كان لا يصلي على الميت إذا عرف أنه مات وعليه ديون لم يترك وفاءها، تخويفا للناس من هذه العاقبة، حتى أفاء الله عليه من الغنائم والأنفال، فكان يقوم هو بسدادها.
وقال: “يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين”.

وفي ضوء هذه التوجيهات لا يلجأ المسلم إلى الدين إلا للحاجة الشديدة، وهو حين يلجأ إليه لا تفارقه نية الوفاء أبدا.
وفي الحديث: “من أدان أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله”.

فإذا كان المسلم لا يلجأ إلى الدين المباح (أي بغير فائدة) إلا نزولا على حكم الضرورة وضغط الحاجة فكيف إذا كان هذا الدين مشروطا بالفوائد الربوية؟