معنى “المنان” في اللغة:
من عليه يمن ّ منّا : أحسن وأنعم .
والاسم : المنة ، وهي العطية ، والمن : العطاء .
ومن عليه وامتنّ وتمنّن : قرّعه بمنّة .
يقال : المنّة تهدم الصّنيعة .
والمنّ : القطع ، ويقال : النقص ، ومنه قوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )[فصلت:8].
والمنّ : شيء حلو كالطّرنجبين ، في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ) [البقرة:57] .
وفي الحديث : ” الكمأة من المن ” .
المنّة بالضم : القوة .
اسم الله “المنان” في السنة النبوية:
ورد في حديث أنس المذكور باسم الله الحنان .
وورد في التنزيل فعلا ، قال الله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) [آل عمران : 164] .
وقال : ( بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَان ) [الحجرات: 17] .
معنى “المنان” في حق الله تبارك وتعالى:
قال الزجاجي : ” المنّان ” فعال من قولك : مننت على فلان ، إذا اصطنعت عنده صنيعة وأحسنت إليه .
فالله عز وجل منان على عباده بإحسانه وإنعامه ورزقه إياهم .
وفلان يمن على فلان : إذا كان يعطيه ويحسن إليه .
وقال الخطابي : وأما ” المنّان ” فهو كثير العطاء .
وقال الجوهري :و “المنّان” من أسماء الله تعالى .
وقال الحليمي ومنها : “المنان” وهو عظيم المواهب ، فإنه أعطى الحياة والعقل والنطق ، وصوّر فأحسن الصور ، وأنعم فأجزل ، وأسنى النّعم ، وأكثر العطايا والمنح ، قال ــ وقوله الحق ــ : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [إبراهيم : 34] .
وقال أبو بكر ـ هو الأنباري – وفي أسماء الله تعالى الحنّان المناّن ، أي الذي ينعم غير فاخر بالإنعام .
وقال في موضع آخر في شرح المنان : معناه : المعطي ابتداء ، ولله المنّة على عباده ، ولا منّة لأحد منهم عليه ، تعالى الله علوا كبيرا .
وقال ابن الأثير : في أسماء الله تعالى ” المنّان ” : هو المنعم المعطي ، من المنّ : العطاء ، لا من المنة .
وكثيرا ما يرد المنّ في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستشيبه ولا يطلب الجزاء عليه .
فالمنّان من أبنيه المبالغة ، كالسّفاك والوهاب .
وقال القرطبي : ومنها المنان جل جلاله وتقدست أسماؤه .
قال : يقال منه : منّ يمن منّا فهو المنان ، والاسم : المنّة واشتقاقـه في موضوع اللسـان من المــنّ وهو العطـاء دون طلب عوض .
ومنه قوله تعالى : ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ) [ص :39] في أحد وجوهه .
ويكون أيضا مشتقا من : المنّة ، التي هي التفاخر بالعطية على المعطى ، وتعديد ما عليه .
والمعنيان في حق الله تعالى صحيحان .
ويتصف أيضا بهما الإنسان ، لكن يتصف بالمعنى الواحد على طريق المدح ، وبالمعنى الثاني على طرق الذّم .
فالأول : الذي هو ممدوح ، نحو أن يكون عطاؤه أو منّه لوجه الله تعالى ، لا لنيل عوض من الدنيا .
ومن هذا القسم قوله عليه السلام : ” وإن من أمن الناس علي في ماله أبوبكر “.
وقوله : ” ما أحد أمن علي من ابن أبي قحافة ” .
والقسم الثاني : وهو أن يمن الإنسان بالعطية ، أي : يذكرها ويكررها ، فهو المذموم .
ومنه قوله تعالى : (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ ) [البقرة :264] .
وقال رسول الله ﷺ : ” ثلاثة لا يكلمهــم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المسبل ، والمنّان ، والمنفّق سلعة بالحلف الكاذب ” .
والمنّان : الذي لا يعطي شيئا إلا منّة ، كذا جاء مفسرا في كتاب مسلم .
والمنان أيضا : الذي يمنّ على الله بعمله .
وهذا كله في حق المخلوق حرام مذموم .
وهو الذي قال فيه الرسول ﷺ : ” لا يدخل الجنة منّان ” .
ولو كان البارئ سبحانه يدر العطاء على عباده منّا عليهم بذلك وتفضلا ، كانت له المنة في ذلك .
فيرجع المنان إذا كان مأخوذا من المنّ الذي هو العطاء إلى أوصاف فعله .
ويرجع المنان إذا أخذته من المنّة التي هي تعداد النعمة وذكرها والافتخار بفعلها في معرض الامتنان ، إلى صفة كلامه تعالى .
من آثار الإيمان باسم الله “المنان”:
1ـــ إن الله تعالى هو المنّان الذي منّ على عباده بأنواع الإحسان والإنعام والأرزاق والعطايا .
وهو سبحانه كثير العطاء ، فلا نهاية لتوسعته : (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 37] .
وقال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [إبراهيم : 34] .
وقد ذكّر الله تعالى عباده ببعض مننه عليهم فمن ذلك قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) [ آل عمران: 164] .
وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء : 94] .
فذكرهم سبحانه وتعالى بنعمة هدايته لهم وقد كانو في ظلمات الكفر يترددون ، وعلى شفير جهنم هم قائمون .
ونحوها قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [الحجرات : 17] .
وقوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [5] وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) [القصص : 5 ، 6 ] .
فيها امتنان على بني إسرائيل وما حصل لهم من العزة والقوة والتمكين في الأرض بعد أن كانو في ذلة واستعاف وتبعية لفرعون وملائه .
ومثلها قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ [114] وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [115] وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [116] وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ [117] وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) [الصافات : [114ــ 118] .
ويوسف نبي الله عليه الصلاة والسلام يذكر نعمة ربه عليه وعلى أخيه ، وأنه سبحانه لم يضع صبره وتقواه بل أورثه ذلك حسن العاقبة ، فيقول لإخواته : (أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:91].
وكذا أهل الجنة يذكرون حالهم في الدنيا وخوفهم من ربهم ثم يذكرون نعمة الله عليهم في الحنان ، ونجاتهم من سموم النيران ، فيقولون :(قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [26] فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [27] إنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) [ الطور :26ــ28] .
قال القرطبي : فيجب على كل مسلم أن يعلم أن لا منّان على الإطلاق إلا الله وحده ، الذي يبدأ باالنّوال قبل السؤال .
ثم يعترف بالمنة لله وحده .
كما روي أن النبي ﷺ لما جمع الأنصار فذكّرهم ، وقال : ” ألم يكن أمركم شيئا فجمعه الله بي ، ألم تكونوا عالة فأغناكم الله بي ، ألم تكونوا خائفين فأمنكم الله بي ” وهم في ذلك يقولون : الله ورسوله أمنّ …الحديث إلى آخره.
( فأقرّوا ) لله ثم لرسوله بالنعمة ، وولّوا النعمة لرب النعمة ، والله أعلم . ثم إذا أعطى أحدا من خلقة مما أنعم الله تعالى به عليه فلا يمن به ، بل يستصغره ، ويتناساه ، ويرى الفضل لغيره في قبوله منه ، لا له .
وقال بعضهم : المن ّ التّحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه .
قال العلماء : وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بانفاقه على المنفق عليه ، ولا يرجو منه شيئا ، ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه .
قال الله تعالى : ( لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [ الإنسان : 6] .
متى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه ، فهذا لم يرد به وجه الله ، فهذا إذا أخلف ظنه فيه ، منّ بإنفاقه وآذاه .
وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم ، إما لأنه المنفق عليه ، أو لعلة أخرى ، من اعتناء معتن ، فهذا لم يرد به وجه الله ، وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله ، وأكبر قصده ابتغاء ما عند الله .
2ــ قد ذكرنا حديث الرسول ﷺ في حرمة المنّ ، وأن المنان من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، وهو أنه لا يعطي شيئا إلا منّه .
وقد قسم الإمام ابن القيم رحمه الله المنّ في الناس إلى قسمين في كلامه عن المنفقين وأنواعهم فقال :
فالمن نوعان : أحدهما منّ بقبله من غير أن يصرح به بلسانه ، وهذا إن لم يبطل الصدقة ، فهو من نقصان شهود منّة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره ، وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه ، فللّه المنة عليه من كل وجه ، فكيف يشهد قلبه منه لغيره ؟
والنوع الثاني : أن يمن عليه بلسانه ، فيعتدى على من أحسن إليه بإحسانه ، ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقا وطوّقه منّة في عنقه فيقول : أما أعطيتك كذا وكذا ؟ ويعدد أياديه عنده .
قال سفيان : يقول أعطيتك فما شكرت .
قال عبد الرحمن بن زياد كان أبي يقول : إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه ، وكانوا يقولون : إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها ، وإذا أسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها .
وفي ذلك قيل :
وإن امرءا أهدى إليّ صنيعة وذكّرنيها مرة لبخيل
وقيل : صنوان من منح سائله ومنّ ، ومن منع نائله وضنّ .
ثم ذكر اختصاص الله تعالى بالمنّ وأسباب ذلك فقال :
وحظر الله على عباده المنّ بالصنيعة واختص به صفة لنفسه لأن منّ العباد تكدير وتعيير، ومنّ الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير .
وأيضا : فإنه هو المنعم في نفس الأمر والعباد وسائط ؛ فهو المنعم على عبده في الحقيقة .
وأيضا فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يمن عليه ولا تصلح العبوديه والذل إلا لله.
وأيضا فالمنة أن يشهد المعطي أنه هو ربّ الفضل والإنعام وأنه ولي النعمة ومسديها ، وليس ذلك في الحقيقة إلا الله .
وأيضا فالمانّ بعطائه يشهد نفسه مترفعا على الآخذ مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا ، ويشهد ذلّ الآخذ وحاجته إليه وفاقته ، ولا ينبغي ذلك للعبد .
وأيضا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى ، فبقي عوض ما أعطى عند الله ، فأيّ حق بقى له قبل الآخذ ؟ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلما بينا ، وادّعى أنّ حقه في قلبه ، ومن هنا ــ والله أعلم ــ بطلت صدقته بالمن ، فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله ، وعوض تلك الصدقة عنده ، فلم يرض به ولاحظ العوض من الآخذ والمعاملة عنده فمنّ عليه بما أعطاه ، أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له .
ثم بيّن رحمه الله تعالى أن المنّ ولو كان بعد لإنفاق بمدة ضرّ بصاحبه ، فقال :
فتأمل هذه النصائح من الله لعباده ، ودلالته على ربوبيته وإلهيته وحده ، وأنه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته وإلهيته ، لا إله غيره ولا رب سواه . ونبه بقوله : ( ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ) على أن المن والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضرّ بصاحبه ، ولم يحصل له مقصود الإنفاق ، ولو أتى بالواو وقال : ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ، لأوهمت تقييد ذلك بالحال ، وإذا كان المن ولأذى المتراخي مبطلا لأثر الإنفاق مانعا من الثواب فالمقارن أولى وأحرى .
وتأمل كيف جرّد الخير هنا عن الفاء فقال : ( لهم أجرهم عند ربهم ) وقرنه بالفاء في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) [ البقرة : 274] فإنّ الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشّرط والجزاء وأنه مستحق بما تضمنه المبتدأ من الصّلة أو الصفة ، فلما كان هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره ، جرّد الخبر عن الفاء ، فإنّ المعنى : إن الذي ينفق ماله الله ، ولا يمن ولا يؤذي ، هو الذي يستحق الأجر المذكور ، لا الذي ينفق لغير الله ، ويمن ويؤذي بنفقه ، فليس المقام مقام شروط وجزاء ، بل مقام بيان للمستحق دون غيره .
وفي الآية الأخرى : ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرا وعلانية ، فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال ، فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو نهار ، وعلى أي حالة وجد من سر وعلانية فإنه سبب للجزاء على كل حال ، فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله . ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار ، ولا نفقة النهار إلى الليل ، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر ولا بنفقة السر وقت العلانية فإن نفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت سبب لأجره وثوابه ، فتدبر هذه الأسرار في القرآن فلعلك لا تظفر بها [ فيما ] يمر بك في التفاسير ، والمنة والفضل لله وحده لا شريك له .
[ رد السائل بالقول المعروف والعفو عنه خير من التصدق عليه ثم إيذائه بالمن والقول ] : ـ
ثم قال تعالى : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) [البقرة : 263] فأخبر أن القول المعروف : وهو الذى تعرفه القلوب ولا تنكره ، والمغفرة وهي : العفو عمن أساء إليك ، خير من الصّدقة بالأذى ، فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول ، والمغفرة أحسان بترك المؤاخذة والمقابلة ، فهما نوعان من أنواع الإحسان ، والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها ، ولا ريب أنّ حسنتين خير من حسنة باطلة .
ويدخل في المغفرة : مغفرته للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى له بسبب رده ، فيكون عفوه عنه خيرا من أن يتصدّق عليه ويؤذيه . هذا على المشهوو من القولين في الآية .
والقول الثاني : أن المغفرة من الله ، أي : مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى .
وفيها قول ثالث : أي مغفرة وعفو من السائل إذا رد وتعذر المسؤل ، خير من أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى .
وأوضع الأقوال هوالأول ، ويليه الثاني ، والثالث ضعيف جدا لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسؤل لا للسائل الآخذ .
والمعنى أن قول المعروف له والتجاوز والعفو خير لك من أن تتصدّق عليه وتؤذيه .
ثم ختم الآية بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال ( وَاللهُ غَنِيٌ حَلِيمٌ ) وفيه معنيان : أحدهما أن الله غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم ، وإنما الحظ الأوفر لكم في الصدقة ، فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى ، فكيف يمن بنفقته ويؤذي مع غنى الله التام عنها ، وعن كل ما سواه ، ومع هذا فهو حليم إذ لم يعاجل المانّ بالعقوبة ، وضمن هذا الوعيد والتحذير .
والمعنى الثاني : أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح ، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة ، فكيف يؤذي أحدكم بمنّه وأذاه ، مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره !
[ المنّ والأذى مما يحبط الصدقات ] :
ثم قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [ البقرة: 264] تضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة ، وهذا دليل على أنّ الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2] .
وقد يقال : إن المنّ والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها ، إلا أنه ليس في اللفظ ما يدل على هذا التقييد ، والسياق يدل على إبطالها به مطلقا ، وقد يقال : تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان ، فإنّ الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله .
ويجاب عن هذا بجوابين :
أحدهما : أن التشبية وقع في الحال التي يحبط بها العمل ، وهي حال المرائي والمانّ المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل .
الثاني : أنّ الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل ، لأنه ’ فعال ‘ من الرؤية التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا ، وهذا خلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا ، وتراخيه أكثر من مقارنته .
وقوله : ( كَالَّذِي يُنفِقُ ) إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق فيكون قد شبّه الإبطال بالإبطال ، أو المعنى : لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس ، فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق .
وقوله : ( فمثله ) أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته ( كمثله صفوان ) : وهو الحجر الأملس ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه واحد.
والثاني : جمع صفوة ( عليه تراب فأصابه وابل ) وهو المطر الشديد ( فتركه صلدا ) : وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره ، وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها ، فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي ــ الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر ــ بالحجر لشدته وصلابته وعدم الانتفاع به .
وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر ، والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها ، كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله .
وفيه معنى آخر وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ، ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت سبع سنابل في سنبلة مائة حبة ، ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه ، وزكائه ، كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئا .
*[ مثل الذي ينفق في سبيل الله تعالى لا يريد من الناس جزاء ولا شكورا ولا يمن ولا يؤذي ] : ــ
ثم قال : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة :265] هذا مثل الذي مصدر نفقته على الإخلاص والصدق ، فإن إبتعاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص ، والتثبيت من النفس هو : الصدق في البذل ، فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان ، إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية :
إحداهما طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية ، وهذا حال أكثر المنفقين .
والآفة الثانية : ضعف نفسه وتقاعسها وترددها : هل يفعل ، أم لا ؟
فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله ، والآفة الثانية تزول بالتثبيت ، فإنّ تثبيت النفس : تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل ، وهذا هو صدقها . وطلب مرضاة الله إرادة وحده وهذا إخلاصها.
فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك ، كان مثله كجنة ــ وهي البستان الكثير الأشجار ـ فهو مجتن بها ، أي مستتر ليس قاعا فارغا .
والجنة بربوة ــ وهو المكان المرتفع ــ فإنها أكمل من الجنة التي بالوهاد والحضيض ، لأنها إذا إرتفعت كانت بمدرجة الأهوية والرياح ، وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها ، فكانت أنضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره ، فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس ، بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال .
وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى ( أصابها وابل ) وهو المطر الشديد العظيم القدر فأدت ثمرتها ، وأعطت بركتها فأخرجت ثمرتها ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل ، فهذا حال السابقين المقربين .
(فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ) فهو دون الوابل ، فهو يكفيها لكرم منبتها ، وطيب مغرسها فتكتفي في إخراج بركتها بالطّل ، وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة ، وهم درجات عند الله ، فأصحاب الوابل أعلاهم درجة ، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .
وأصحاب الطّل مقتصدوهم .
فمثّل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة بالوابل والطّل . وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاء أو ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف فكذلك نفقتهم ــ كثيرة كانت أو قليلة ــ بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم ، فهي زاكية عند الله نامية مضاعفة .
واختلف في الضِّعفين ، والصواب أن الضعفين هما المثلان فقط : الأصل ومثله ، وعليه يدل قوله تعــالى : ( فَآتَتْ أَكُلَهَا ضِعْفِينِ ) [البقرة 265] .
أي : مثلين ، وقوله تعالى : (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : 30] أي مثلين ، ولهذا قال في الحسنات : (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْن) [الأحزاب : 31] وأما ماتوهموه من الستواء دلالة المفرد والتثنية فوهم منشأه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل ، وليس كذلك ، بل المثل له اعتباران : إن اعتبر وحده فهو ضعف ، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان والله أعلم .
واختلف في رافع قوله : ( فطل) فقيل : هو مبتدأ خبره محذوف أي : وطلّه يكفيها ، وقيل : خبر مبتدأه محذوف ، فالذي يرويها ويصيبها طلّ ، والضمير في (أصابها ) إما أن يرجع إلى الجنة أو إلى الربوة وهما متلازمان .
3ــ روى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه ، عن رسول الله ﷺ قال : ” الكمأة من المنّ ، وماؤها شفاء للعين “
قال أبو عيد : ” الكمأة من المن ّ ” يقال ــ والله أعلم ــ إنه إنما شبهها با المن الذي كان يسقط على بني إسرائيل ، لأن ذلك كان ينزل عليهم عفوا بلا علاج منهم ، إنما كانوا يصبحون وهو بأفنيتهم فيتناولونه .
وكذلك ” الكمأة ” ليس على أحد منها مؤنة في بذر ولا سقي ولا غيره ، وإنما هو شيء ينبته الله في الأرض حتى يصير إلى من يجتنيه .
من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي