يختلف النظام القضائي الحديث عن القديم ، فلم يكن في الماضي مصاريف قضائية، لذا لم يوجد نص فقهي يحدد من يدفع المصاريف القضائية، ولكنّ الفروع الفقهية، والقواعد الأصولية تقضي بأن الذي يدفع المصاريف القضائية هو المحكوم عليه، خاصة في حالة الغني المماطل.

يقول فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله:

ليس فيما أتذكَّر نصٌّ فقهي في المذاهب على نفقات المحاكمة؛ لأن القضاء في ماضينا القضائي الفقهي لم يكن فيه نفقات محاكمة، ولكن المبدأ الفقهيَّ الذي يتجلَّى في جميع نصوص المذهب الحنفي: أن الشخص المسؤول بتسليم شيء إلى صاحبه، هو الذي يحمل نفقات التسليم المكلَّف به عندما يكون للتسليم مؤونة ونفقة؛ ذلك لأنَّ النفقة عندئذٍ تكون تابعة للتكليف لتوقُّفه عليها.

ومن المقرر في علم الأصول أن الأمر الشرعي بشيء هو أمر بكل ما يستلزمه ذلك الشيء أو يتوقف عليه، فالأمر بالوضوء مثلاً هو أمر للمكلَّف بشراء الماء بالثمن المُعتاد، إذا كان لا يمكن الحصول على الماء إلا بثمن وهكذا… وتتجلَّى تطبيقات هذا المبدأ في كثير من المواطن، منها ما يلي:

1 – نصُّوا على أن نفقة ردِّ المغصوب إلى مكان الغَصب إذا احتاج ردُّه إلى نفقة تقع على عاتق الغاصِب؛ لأنّه المكلَّف بالإعادة والتسليم (المجلة المادة 890) والمجلة كما هو معلوم قانون فقهي من المذهب الحنفي.

2 – وكذلك نصُّوا في الإعارة على أن نفقة ردِّ العاريّة تقع على عاتق المُستعير للعلّة نفسها. (المجلة المادة 830).

3 – وكذلك في البيع قالوا: إن المصاريف التي تتعلق بتسليم المَبيع تلزم البائع للعلة نفسها (المجلة 289) ونصوص المذهب كثيرة في هذا الموضوع في شتَّى المناسبات.

هذا ولا شكَّ أن المَدين المُماطِل القادِر على الدفع هو ظالم كالغاصب، يقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام: ” ليُّ الواجِد يُحِلُّ عِرْضَه وعُقوبتَه “، واللَّيُّ هو المُماطَلة مصدَر لَوى يلْوي، والواجد هو المَدين الذي يجِد ما يَفي به دينَه. ” يُحِلُّ عرضَه وعقوبتَه” أي: يجعل الناسَ في حلِّ من ذمِّه والطعن فيه، ويجعل الحاكم في حلٍّ من عقوبته.

والقوانين التي تجعل نفقات المحاكمة على المحكوم عليه هي من هذه الناحية موافقة للحكم الشرعي، ويحل لكل إنسان الاستفادة من حكمها، ولا سيما أن نفقاتِ المحاكمة وتوابعَها من نفقات الدفاع والتنفيذ قد تستغرق الدين كله، فإذا تحملَّها المدين قد لا يبقى له بعدها شيء من دينه، وهذا غير معقول لا شرعًا ولا عقلاً ولا قانونًا.

والذي يكابر في هذه البدَهيّات هو مُبطِل متستِر وراء الزعم الشرعي لأكل الحقوق بالباطل، كبطله في عدم دفع الدين إلا بقوة القضاء والتنفيذ، ولا حاجة إلى حشد الحجج له، وإنما ذكرنا هذا القدر تلبية للطلب.