لم يرد حديث بهذا اللفظ ” لا رهبانية في الإسلام ” . وإن ذكره بعض المصنفين الكبار في كتبهم ولذا قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: لم أره بهذا اللفظ.
ولكن هناك عدة أحاديث في هذا المعنى.
-منها ما رواه أحمد عن أنس في المسند: ” لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل ” .
-قال الحافظ ابن كثير: ورواه الحافظ أبو يعلى من طريق ابن المبارك، ولفظه ” لكل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة: الجهاد في سبيل الله ” .
-وروى أحمد عن أبي سعيد الخدري: ” أوصيك بتقوى الله تعالى، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام .. الحديث .

-وروى البيهقي من حديث أبي أمامة: ” تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى ” .
-وروى أحمد وأبو داود والحاكم في صحيحه عن ابن عباس ورفعه: ” لا صرورة في الإسلام ” والصرورة: من لم يتزوج. وقيل: من لم يحج.

-وروى الطبراني عن سعد بن أبي وقاص: ” إن الله أبدلنا الرهبانية: الحنيفية السمحة ” .

-وروى أحمد عن عائشة أن النبي قال لعثمان بن مظعون: ” يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفمالك فِيَّ أسوة؟ فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده .

وهذا يؤكد لنا أن معنى الحديث صحيح، إذ (الرهبانية) تتضمن عدة عناصر أساسية، كلها يرفضها الإسلام: وهذه العناصر هي:

1ـ الانقطاع الكامل للتعبد.
2ـ الامتناع الدائم عن الزواج.
3ـ الإعراض عن عمارة الأرض، والعمل للدنيا والمعيشة.

والإسلام يرفض هذه المعاني، لأنه يقوم على فكرة التوازن بين الروحية والمادية، وبين الدنيا والآخرة، وبين حق الرب وحظ النفس، وبين المثالية والواقعية.

فأما الانقطاع الكامل للعبادة، فقد رفضه الإسلام، وقال للثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد، وقال الثاني: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج ” قال لهم: إني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ” متفق عليه عن أنس.

وقال لعبد الله بن عمرو، حين واصل صيام النهار وقيام الليل: إن لجسدك عليك حقا، ولعينك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزروك (زوارك) عليك حقا ” وأمره أن يخفف من صيامه وقيامه، حتى يقوم بالحقوق الأخرى.
وقال نحو ذلك لعثمان بن مظعون.

ويكفي المسلم أن يودي فرائض الله في العبادات، ويزيد عليها من السنن والنوافل، وهذه تستغرق زمنا محدودا من اليوم، ثم يستطيع أن يجعل أعماله كلها عبادة، من خدمة المجتمع، وكسب المعيشة، حتى الأكل والشرب، والاستمتاع بالزوجة، تصبح بالنية الصالحة قربة إلى الله تعالى.

وأما الامتناع عن الزواج بصورة دائمة، فهو ضد المنهج الإسلامي، الذي يرى أن الزواج آية من آيات الله تعالى في الكون (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم:21.

ويقول القرآن: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) النور:32.

وقد استأذن بعض الصحابة النبي أن يتبتلوا ويتركوا النساء، فلم يأذن لهم، كما روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا “.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: وأنا أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني “.

لا مانع أن ينشغل المسلم عن الزواج بالعلم أو العمل أو الجهاد، أو تربية إخوة صغار، أو نحو ذلك، كما رأينا كثيرا من العلماء ماتوا ولم يتزوجوا، مثل الإمام النووي وابن تيمية وغيرهما. وقد ألف العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ـ رحمه الله ـ كتابا عن (العلماء العزاب).
ولكن المسلم لا يترك الزواج تشبها بالرهبان وتحريما له.

وأما الإعراض عن عمارة الأرض العمل للمعيشة، وتنمية الحياة، فهو مما يقاومه الإسلام، فإن من مقاصد الإسلام الأساسية من خلق البشر: عبادة الله وعمارة الأرض، وكما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات:56 وقال: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) هود:61 ومعنى (استعمركم) أي طلب إليكم أن تعمروها.

وعمارة الأرض تكون بالزراعة وإحياء الموات، والصناعة والاحتراف والتجارة، وكل ما ينمي الحياة ويرقيها ويجملها، فإن الله جميل يحب الجمال.

والعمل للدنيا مشروع في كل الأيام، حتى في يوم الجمعة، فلا يوجد يوم يمتنع فيه المسلم عن العمل الدنيوي، كيوم السبت عند اليهود. قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) الجمعة: 10. فهذا هو شأن المسلم: قبل الجمعة في عمل وبيع وشراء، حتى يسمع النداء، وبعد الجمعة ينتشر في الأرض ويبتغي من فضل الله.

وأما البعد عن طيبات الحياة وزينتها، إلى حد تحريمها على النفس، فهو ما أنكره القرآن على أهل الأديان من قبله، وجاء في ذلك قوله تعالى في القرآن المكي: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟) الأعراف:31،32. وما كان الله تعالى ليخلق هذه الطيبات ثم يحرمها على خلقه، دون أن يكون فيها ضرر لهم. إنما يحرم الله الخبيث الضار. وهذا ما وُصِفَ به رسول الإسلام في كتب أهل الكتاب أنه (أنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف:157.

صحيح أن بعضالصوفية المسلمين غلوا في الزهد والتقشف، ولكنهم كانوا متأثرين بمناهج وفلسفات أخرى مستوردة من خارج الإسلام، فخرجوا عن حد الوسطية الإسلامية، إلا من اعتصم بالقرآن والسنة منهم.

ومنهج الإسلام يتمثل في قوله تعالى: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) البقرة:201 وفي دعاء الرسول الكريم: ” اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر” رواه مسلم عن أبي هريرة.

وفي قول الصحابة رضي الله عنهم: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.

وقد كان من الصحابة أغنياء كبار، مثل عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وهما من العشرة المبشرين بالجنة. ولم ينقص هذا من منزلتهما، المهم أن تملك الدنيا ولا تملكك، وأن تكون في يدك لا في قلبك!.

وقد بين القرآن أن النصارى قد ابتدعوا الرهبانية من عند أنفسهم، كما قال تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها) الحديد:27.

وجاء في الحديث الذي رواه أنس مرفوعا: ” لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ” .

وعن سهل بن حفيف مرفوعا: ” لا تشددوا على أنفسكم، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات ” .

إن الرهبانية تمثل نوعا من الغلو في السلوك الديني، والإسلام إنما قام على التوازن والوسطية في كل شيء (وكذلك جعلناكم أمة وسطا).