فلقد أخطئت حينما أخرت القضاء حتى بلغت هذا السن، وصرت إلى هذا المصير من ضعف السن، وخور القوى، وكان عليك أن تغالبي نفسك حتى تنصاع لك في قضاء ما أفطرته بسبب الحيض.

وقد أحسن الله إلى المسلم إذ أطال به العمر حتى يتمكن من إبراء ذمته، ولو أن المنية عاجلته لكان الآن في حال لا تحمد عقباه ما لم يبادر أحد من أهله فينقذه، وقلما يفكر وارث في مورثه.

وعلى أية حال فليس بوسع المسلم في هذا العمر وخصوصا عند عدم المقدرة على الصيام سوى أن يطعم عن كل يوم أفطره مسكينا واحدا وجبتين مشبعتين، وهذا يجزئه بشرط أن يتوب إلى الله من إثم التأخير والتسويف.

قال الإمام النووي الشافعي في المجموع:-

إذا كان عليه قضاء رمضان أو بعضه ، فإن كان معذورا في تأخير القضاء بأن استمر مرضه أو سفره ونحوهما جاز له التأخير ما دام عذره ولو بقي سنين ، ولا تلزمه الفدية بهذا التأخير ، وإن تكررت رمضانات ، وإنما عليه القضاء فقط ; لأنه يجوز تأخير أداء رمضان بهذا العذر ، فتأخير القضاء أولى بالجواز .

فإن لم يكن له عذر لم يجز التأخير إلى رمضان آخر بلا خلاف ، بل عليه قضاؤه قبل مجيء رمضان السنة القابلة . قال أصحابنا الشافعية : لأن تأخير الصوم إلى رمضان آخر تأخير له إلى زمن لا يقبل صوم القضاء ولا يصح فيه ، فهو كتأخيره إلى الموت فلم يجز.

فلو أخر القضاء إلى رمضان آخر بلا عذر أثم ،ولزمه صوم رمضان الحاضر ويلزمه بعد ذلك قضاء رمضان الفائت ويلزمه بمجرد دخول رمضان الثاني .

وقال الخرقي، من علماء الحنابلة-:

فإن لم تمت المفرطة التي لم تقض ما فاتها حتى أظلها شهر رمضان آخر ، صامت رمضان الحاضر ، ثم قضت ما كان عليها ، ثم أطعمت لكل يوم مسكينا ، وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت والحياة ، إذا فرطا في القضاء .

وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني شارحا الكلام السابق:-

وجملة ذلك ، أن من عليه صوما من رمضان ، فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر ، لما روت عائشة قالت : كان يكون علي الصيام من شهر رمضان ، فما أقضيه حتى يجيء شعبان . متفق عليه . ولا يجوز له تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر ، لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ، ولو أمكنها لأخرته ، ولأن الصوم عبادة متكررة ، فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية ، كالصلوات المفروضة.

فمن أتى عليه رمضان آخر، ولم يقض ما عليه من رمضان الفائت، فإن كان ذلك بعذر فلا شيء عليه بالإجماع، لأنه معذور في تأخيره.

وإن كان تأخيره للقضاء بغير عذر، فقد جاء عن عدد من الصحابة: أن عليه عن كل يوم إطعام مسكين، كفارة عن تأخيره.

وأخذ بذلك مالك والثوري والشافعي وأحمد وغيرهم (المغني مع الشرح الكبير -81/2).

وهناك رأي آخر: أن لا شيء عليه غير القضاء وهو رأي النخعي وأبو حنيفة وأصحابه، ورجحه صاحب (الروضة الندية) لأنه لم يثبت في ذلك شيء صح رفعه إلى النبي ، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم، وهي ليست حجة على أحد، ولا تعبد الله بها أحدًا من عباده، والبراءة الأصلية، مستصحبة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح (الروضة الندية لصديق حسن خان -232/1).

والأفضل الأخذ بما جاء عن الصحابة على سبيل الاستحباب، لا الوجوب، فهو نوع من جبر التقصير بالصدقة، وهو أمر مندوب إليه. أما الوجوب فيحتاج إلى نص من المعصوم ولم يوجد.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وهو يقرر عدم وجوب الإطعام:

وأما أقوال الصحابة فإن في حجتها نظراً إذا خالفت ظاهر القرآن، وهنا إيجاب الإطعام مخالف لظاهر القرآن ، لأن الله تعالى لم يوجب إلا عدة من أيام أخر ، ولم يوجب أكثر من ذلك ، وعليه فلا نلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به إلا بدليل تبرأ به الذمة ، على أن ما روي عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم يمكن أن يحمل على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب ، فالصحيح في هذه المسألة أنه لا يلزمه أكثر من الصيام إلا أنه يأثم بالتأخير.

فمن وجب عليه القضاء ثم لم يتمكن منه بسبب مرض أو ضعف لا يرجى الشفاء منه فإنه ينتقل إلى الإطعام ، فيطعم عن كل يوم مسكيناً.

وسئل الشيخ ابن عثيمين عن امرأة كانت لا تقضي أيام الحيض في رمضان حتى تراكم عليها حوالي مائتي يوم ، وهي الآن مريضة وكبيرة في السن ولا تستطيع الصيام ، فماذا عليها ؟ فأجاب :

هذه المرأة إذا كانت على ما ذكر تتضرر من الصوم لكبرها ومرضها فإنه يطعم عنها عن كل يوم مسكيناً، فتحصي الأيام الماضية وتطعم عن كل يوم مسكيناً.