المسلم لو عبد الله من أجل الجنة وخوفا من النار فلن يعد هذا نقصا في دينه فالله سبحانه وتعالى يأمر نبيه فيقول: (قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) –آية 15 الأنعام- فالرسول يخاف من عذاب الله وكثيرا ما كان يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، فالنجاة من النار والفوز بالجنة أمل ضخم لمِثْله يعمل العاملون ” وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ” .

يقول فضيلة الشيخ العلامة محمد الغزالي -رحمه الله-:
قال أعداء الأنبياء لهم وهم يرفضون رسالاتهم وينكرون حديثهم عن الله، مقترحين أن يكون الرسول مَلَكًا: (وقالُوا ما لَهِذا الرسولِ يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواقِ لولا أُنزِل إليه مَلَكٌ فيكونَ معه نَذِيرًا)! –آية 7 الفرقان-.
وكما استنكروا أن يكون المُرْسلون بشرًا يأكلون استنكروا عليهم الزواج والنسل، ظانِّين أن الرغبة الجنسية تَشِين الإنسان الكبير، وعليه إذا أراد الكمال أن يَكْبِتها.

وقد ردَّ القرآن هذه المزاعم، وبيَّن جلَّ شأنُه أن المُصْطَفَينَ الأخيارَ من عباده كانوا رجالاً ناضجي الغرائز: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًاً من قبلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْواجًا وذريةً). – آية 38 الرعد-.

ومع ذلك فإن بقايا من منطق الجاهلية القديمة لا تزال عالقة بأذهان الكثيرين ممَّن يَحسَبون السُّمُوَّ البشري لا يَتِمُّ إلا بإعلان حرب مجنونة على البدن تُوهي قُواه وتدوِّخ غرائزه.
بل سَرَى ذلك الفكر إلى بعض المذاهب الدينية، وانبنى عليه أن التقوى في هذه الحياة تعني الرهبانية، وأن السمُوَّ في الحياة الأخرى لا يُتَصور مع وجود هذا الجسد اللعين! وعليه بعد ذلك فلا بد أن يكون النعيم الموعود روحانيًّا محضًا وكذلك العذاب المُرصَد للأشقياء!

ولما كان الإسلام دينَ الفطرة السليمة، ولمَّا كان لُبَابه احترامَ الحقيقة المجردة، فإنه رفَض كل هاتِيك المقدمات والنتائج، وأسس تكاليفه وأَجْزِيَته الدينية على اعتبار الإنسان كائنًا متميزًا يجمع بين جُمْلة من المواهب والخِصال المتلاقِيَة في شخصيته، بها جميعًا يسمو أو يهبط، وبها جميعًا يُثاب أو يُعاقب.

لقد أخطأ كثير من المُنْتَسِبين إلى الدين في احتقارهم للبدن، وفهمهم أن التساميَ لا يحصل إلا بسَحْقِه، وفهمهم بعد ذلك أن الحياة الأخروية لا وجود للبدن فيها، وأن النعيم أو الجحيم معنويان وحسب!

وقد سرى هذا الخطأ ـ كُلاًّ أو جُزءًا ـ إلى بعض متصوفة المسلمين، فاعتنقوه وحَسِبوه دلالة ارتقاء وتجرُّد، فظلموا بهذا المسلك دينهم، وأوقعوا خللاً سيئًا في موازين الجزاء كما أقامها الكتاب العزيز. وقلدوا أتباع الديانات المُنحَرِفة في الجَور على الطبيعة البشرية وبذلك أفسحوا للمذاهب المادية طريق التقدُّم والسيادة.

بل بلغت المُجازَفة بهذا البعض أن حقروا عبادة الرغبة والرهبة، وأشاعوا أن من الهبوط أن تُطيعَ الله طلبًا لجنته، أو تَدَعَ عصيانَه خوفًا من ناره، حتى تُوهِم الناس أن الأمل في الجنة والخوف من النار ليس شأن العباد الصالحين!

وهذا الضرب من التفكير لا يُمكن وصفه بأنه تفكير إسلامي، إنه ضرب من الشرود والغرور تبدو تفاهتُه عندما نحتكم إلى العقل والنقل على سواء.

ولنبدأ بالنقل: يصف لنا القرآن الكريم مشاهد الجزاء، فيذكر لنا أن رجلاً مؤمنًا بحث عن صاحب له كان ظاهر الإلحاد والفسوق، فوجده قد استقر في سواء الجحيم، فحمد الله أنْ لم يتأثر به: (… تاللهِ إن كِدْتَ لتُرْدِينِ. ولولا نعمةُ ربي لَكُنتُ من المُحْضَرِين. أفما نحنُ بميِّتينَ. إلا موتَتَنا الأولى وما نحنُ بمُعَذَّبين. إن هذا لهو الفوزُ العظيمُ. لمثلِ هذا فليَعملِ العاملون) (الصافات: 56 ـ 61).

النجاة من النار أمل ضخم لمِثْله يعمل العاملون، فكيف يجيء أحد من الناس، رجلاً أو امرأة، ليقول: بل هو أمل تافه؟
ويقول الله جل جلاله: (إن كتابَ الأبرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وما أدراكَ ما عِلِّيُّونَ. كتابٌ مرقومٌ. يَشْهَدُهُ المُقَرَّبونَ. إنَّ الأبرارَ لَفي نَعيمٍ. على الأرائكَ يَنظُرونَ. تَعرِفُ في وُجوهِهِمْ نَضرةَ النعيمِ. يُسقَونَ من رحيقٍ مختومٍ. ختامُه مِسْكٌ وفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنافِسُونَ) (المطففين: 18 ـ 26).

في الرحيق المختوم يُسقاه قوم تعرف في وجوههم نضرة النعيم، في هذا الجزاء الجزيل ينبغي أن يتنافس المتنافسون! فكيف يجيء إنسان، رجلاً كان أو امرأة، ليقول: لا أعبد الله طلبًا لشيء من ذلك.

إن هؤلاء الناس يكذبون على طبائعهم الإنسانية كما يكذبون على دين الله، ثم هم يُسيئون تصور النعيم الأعلى أو العقاب السرمدي.

إن الجنة دارٌ لنوعين من المُتَع؛ أحدهما مادي والآخر معنوي، فالمادي تكريم للإنسان بفيض من التجَلِّي الإلهي يُشعره بالرضوان ويرفعه بالرؤية.
وبَدَهيّ أن المتاع الثاني أكبر من الأول، كما قال جل شأنه: (ومساكنَ طيبةً في جناتِ عدنٍ ورضوانٌ من اللهِ أكبرُ ذلكَ هُوَالفوزُ العظيمُ ) (الصف: 1).

ولكن هل هناك فواصل ـ في هذا الكِيان البشري ـ بين الإحساسَيْنِ، أو أن الإنسان بأجهزته المادية والمعنوية يذوق الخير والشر جميعًا؟

إن اللذة والألم قوانين إنسانية صارمة فَلِمَ الطعن فيها؟
ولو فرضنا أن الجنة محل الكرامة الإلهية، لكفاها ذلك ولاحترمناها من أجل هذه النسبة! ولا يأبى الكرامة إلا لئيم.
فكيف ـ وهي إلى جانب ما وصفناه ـ تلبيةٌ لحاجة طبيعية يحُسها كل إنسان؛ حاجة ذلك البدن الذي يَضِيره الحرمان ويُضنيه القُلُّ والذُّلُّ، حاجة ذلك البدن الذي يكره الجوع والعطش والعُرْيَ والهوان!
أمن أجل فكرة خيالية نجيء إلى مئات الآيات الصريحة الواضحة، فنحاول صرفها عن ظاهرها والتمحُّل في تأويلها وإفساد الآثار التربوية المقترنة بها: (قُلْ إِنِّي أخافُ إِنْ عَصَيْتُ ربي عَذابَ يومٍ عظيمٍ) (الأنعام: 15).
ماذا يبقى من آيات القرآن بنجاة من التأويل والإبطال إذا تمَّت هذه المحاولة؟

إن الله وجَّه نبيه إلى هذا الأمر ووصف أنبياءه الكرام بأنهم: (كانوا يُسارِعُونَ في الخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَبًا ورَهَبًا وكانوا لنا خاشعينَ) (الأنبياء: 90).
ووضع أمام أبصار البشر كلهم هذا الترهيب: (فَمَنْ زُحزِحَ عَنِ النارِ وأُدخِلَ الجنةَ فَقَدْ فَازَ) (آل عمران: 185).
فهل بعد ذلك نسمع لقول امرئ يرفض عبادة الرغبة والرهبة ويزعم أنه لا يخاف من النار ولا يحب الجنة، وأنه ـ إن عَبَدَ ـ فإنما يعبد ابتغاء وجه الله!

ما هذا اللغو؟ وهل الوجوه الناضرة بنظرها إلى الله تظفَر بذلك في قَعر جهنم، أم تظفَر بذلك في حدائق الجنة؟
قال لي أحد المتصوفين: إن من الخساسة أن تعبد الله منتظرًا أجرًا.
فقلت: من العبودية أن تستبشر بفضل الله، وأن تُوجِل من عقوبته، وأن تعرف قدرك وتلزم حدَّك؛ أين تُريد أن تضع نفسك؟
إن الله قال عن نبيه إبراهيم: (وَجَعَلْنَا في ذُرِّيتِهِ النبُوَّةَ والكتابَ وآتَيْنَاهُ أجرَه في الدنيا وإنَّهُ في الآخرةِ لَمِنَ الصالِحِينَ) (العنكبوت: 27).

فهل أنت أيها الإنسان فوق الأنبياء استغناءً عن الأجر الإلهي؟
وقال عن عباده المؤمنين الموفَّقين: (تحيتُهم يوم يَلقَونَهُ سَلَامٌ وأعَدَّ لهم أجرًا كريمًا) (الأحزاب: 44).
ووصف عاقبة الصادقين المضحِّين بأنفسهم في سبيل ربهم فقال: (والشهداءُ عند ربِّهم لهم أجرُهم ونورُهم) (الحديد: 19).

فهل أنت في مكانة أخرى غير ما أعدَّ الله للشهداء والصالحين، مكانة الزاهد في أجر أو الرافض له؟ ما هذا الغرور؟
لقد وصف الله أولي الألباب بأنهم: (الذين يذكرون اللهَ قيامًا وقعودًا وعلى جُنوبهم ويتفكرون في خلقِ السماواتِ والأرضِ ربَّنا ما خلَقتَ هذا باطلاً سبحانَك فقِنا عذابَ النارِ) (آل عمران: 191).
فهل يرفض أن يكون من أولي الألباب إلا البُلْهُ؟

ولقد أهاب الله بخلْقه أن يسارعوا إلى: (جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمتَّقين) آية 133 آل عمران-.
فهل يكره أن ينتظم في عِداد المتَّقين إلا الحَمقَى؟

إنني أطلب من إخواننا الذين يكتبون في التصوف أن يُدمنوا النظر في كتاب الله، وأن يستوحوا ما يستجيدون من معانٍ وغايات، وبذلك وحده يُنصفون أنفسهم وطريقهم.
أما ترويج فكرة لرجل أو امرأة تبتعد عن هذا الضوء الكريم فأمر لا يُستساغ، ومن حقنا أن نرفضه.
لقد سمعت أشعارًا تنسب إلى رابعة العدوية، بل حكَى الرواة عنها ـ والعهدة عليهم ـ أنها لمَّا سمعت التذكير بفواكه الجنة وخيراتها، قالت: لسنا أطفالاً فنُغرَى بهذه الأشياء.
وسواء صحَّ ما نُسب إلى هذه السيدة أو بطَل، فنحن كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فاطمة بنت قيس، وهي صحابية أفضل من رابعة: “لا نَدَعُ كتابَ ربنا وسنةَ نبينا لقول امرأة لا ندري أحَفِظَت أم نَسِيَت”!

إن الجنة وعد الله لعباده فنعمَّا هي، وشكرًا لمَن أعدَّها للمتقين، وهنيئًا لمَن يصير إليها، يمرح في بحبوحتها ويسعد بربه الذي طالما صلى وصام من أجله!

إنه في هذه الجنة يشهد مَن كان يعبده بالغيب، ويتلقَّى فضله في قلبه وعلى بدنه، لذاتٍ ماديةً معنوية متشابكة لا انفصام بينها: (وإذا رأيتَ ثَمّ رأيتَ نعيمًا ومُلْكًا كبيرًا… إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيُكم مشكورًا).
ونحن نلفت نظر المفسرين ألا ينخدعوا بما شاع في الديانات الأولى من أوهام أو بما نسب إليها من أفهام، فإننا وَرِثنا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.