الطَّلاق مَنُوط شرعًا بالزوج ، ولا يقع من غيره إلا بالإنابة منه ، بطريق التفويض أو التوكيل ، ثُمَّ صاحب الولاية العامة : وهو القاضِي المسلم ، ولا يجوز لأي جهة أخرى تطليق الزوجة من زوجها.

يقول الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق-رحمه الله-:

إنّ الزواج رابطة وعَلاقة بين رجل وامرأة، قصد الشارع بها غَضَّ البصر والإحْصان وحِفظ الشَّرَف، والسَّكَن والمودّة، والرحمة بين الزوجين، وتعاونهما استبقاء للنوع الإنساني، وصيانة للمجتمع من همجيّة وفوضى الاختلاط المُضيِّع للنسل، والمُهدِر للأنساب، وحماية من الأمراض التناسليّة التي نشأت وتنشأ عن الاختلاط غير المشروع على نحو ما هو ذائع ومعروف.

فشِرعة الزَّواج نعمة من الله على الإنسان، فيها العَفاف والطُّهر، وفيها السعادة والغِنَى، وفيها الارتباط الأُسَري المستقِرّ، غير أن هذه العَلاقة الزوجيّة قد تعتريها حالات تُفتقَد فيها المودّة والرحمة والسَّكَن والتعاون والقيام بحدود الله، كنُفور طبيعيّ بينهما بسبب تبايُن في أخلاقهما وتباعد في طباعهما وسلوكهما، وقد تنشأ أحداث تضطرِب بها حياتُهما، ويختَلُّ نظام معيشتِهما، فتَسُودُ الكراهيةُ ويعظُمُ الشِّقاق، ويبلغ حَدًّا لا ينفع فيه وعظ ولا نصح ولا صلح، فيكون الفراق أمرًا محتومًا؛ لأن رابطة الزواج حينئذٍ تُصبح هيكلًا بلا رُوح وغُلاًّ من غير رحمة ولا شفقة، ولا تُثمِر ثمرتَها، ولا تُؤتِي أُكُلَها، ولا تحقِّق ما أُريدَ منها، في نطاق أحكام الله ـ سبحانه ـ ويكون الإبقاء عليها في هذه الحال من أعظم الظُّلم، وأشد أنواع القَسوة، وسبيلًا للكيد من كل طرف إضرارًا بالآخر ، ودفعًا لهذه المَضارِّ شرع الله في القرآن الطلاق؛ حَلًّا لرابطة الزواج، متى ضاقت بالزوجين الحياة المشترَكة واشتدَّ الخُلْف بينهما، قال تعالى: (وإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) “الآية رقم 130 من سورة النساء.

ومع شِرعة الطَّلاق ، وإنْ كان أبغضَ الحلال إلى الله، جعلَه الله بيدِ الرجل وحدَه، مُراعاة لِمَا طُبِعَ عليه كلٌّ من الرجل والمرأة : إذ الشأن في طبيعة المرأة والغالب في أحوالِها غَلَبة العاطفة على سلوكيّاتها، وبعض هذه العاطفة يكون محمودًا جيِّدًا كتربية الطِّفْل التي تقوم على العطف والحنان والشَّفقة البالغة التي تُحَبِّب إلى الأم الصبر والجَلَد في رعايتِه وإصلاحه ، وقد تكون العاطفة عاصفة بَغيضة وضَارّة في مواطِن أخرى، كمواطن الغضب التي لا تصفو منها العِشرة الزوجيّة، فقد يشتدُّ انفعالها ويحتَدُّ مِزاجُها وتندفع وراء عاطفتها الجارفة دون تَرَوٍّ ولا مُبالاة بالنتائج ضارّةً كانت أو نافعة، حسنة كانت أو سيئة، بل قد ترى النَّفع كله والحسن جميعه في تلبية داعي تلك العاطفة والاستجابة لمطالِبها العاجلة، دون أن تَترَيَّث وتتمهَّل إلى وقت تهدأ فيه ثورة نفسها ويحسُن فيه التفكُّر والتدبُّر في الأمر، والموازَنة بين داعي العقل وداعي العاطفة. وقد ترى المرأة في مواطن الرغبة أو تتخيَّل بارقة أمل في حياة أسعد وأهنأ من حياتها الزوجيّة، متأثِّرة بالعاطفة تأثُّرًا لا يَقِلُّ في عُنْفِه وقوّته عن تأثُّرها في مواطن الغضب. فلو أن أمر الطلاق إلى المرأة في هذه الحال لأساءَت استخدامَه ـ في الغالب ـ نزولًا على ما تخيَّلت وكانت عاقبة أمرِها خُسْرًا.

ولا يُغني هذا أن الرجل مجرّد من الانفعالات الضارّة ومعصوم من التأثُّر بنزعاتها؛ إذ في الرجال مَن هُمْ أسرعُ انفعالا وانسياقًا واندفاعًا، لكنْ ليس هذا هو الشأن والغالب في طبيعة الرَّجُل، بل يَغلِب عليه التريُّث والتمهُّل، والحرص كلَّ الحرص على دعم بناء العلاقة الزوجيّة التي أنفق في سبيلها من المال ما يحتاج إلى إنفاق مثله أو أكثر منه إذا طَلَّق وأراد عقْد زواج آخر، فهو لذلك وتقديرًا لالتزاماته التي تترتَّب على الطلاق كما ترتَّبت على الزواج يكون أصبرَ على ما يكرَه من المرأة، فلا يُبادِر إلى الطلاق لكلِّ غَضْبة يغضَبها، أو سيِّئة منها يشُقُّ عليه احتمالها، بل بحكم العقل والمصلحة، فإنْ رآها في الفِراق أقدمَ عليه، وإلا كفَّ عنه دون انسياق وراء الغضب؛ ولهذا لا يقع طلاق الصَّبِيّ والمجنون والغضبان الذي لا يُدرك ما يقول ولا ما يصدُر عنه؛ لفقدهم القُدرة على تقدير ومعرفة وجه المصلحة، أهي في البقاء والحفاظ على الرابطة الزوجية والعمل على إصلاحها، أم في حلِّها وإنهائها.

وإذا كان مُقتضى نصوص القرآن أن يكون الطَّلاق بيد الزوج حيث أسندَتْه إلى الرجل، وإطلاق إسناد فعل إلى فاعل يدُلُّ على الاختصاص به، قال تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْروفٍ ولاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ولاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ومَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ والحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ واتَّقُوا اللهَ واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالمَعْروفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وأَطْهَرُ واللهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) “الآيات رقم 230، 231، 232 من سورة البقرة

وقال سبحانه: (وإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ولاَ تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلونَ بَصِيرٌ) “الآية 237 من سورة البقرة” ، وقال عزَّ وجَلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدّتِهِنَّ.. ) “سورة الطلاق” ، وقال جلَّ وعلا: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وأَبْكارًا) “من الآية 5 من سورة التحريم” ، وقال ـ ـ لعمر في شأن ابنه عبد الله رضي الله عنهما: “مُرْهُ فَلْيُراجِعْها، أو ليطلِّقْها طاهرًا أو حاملًا” “رواه الجماعة إلا  البخاري ـ نيل الأوطار للشوكاني جـ6 صـ221 ط. دار الحديث”.

إلى غير هذا من الآيات والأحاديث الدّالّة على إسناد الطلاق إلى الرجل دون المرأة، الذي يشير دَلالة إلى اختصاصه به.

وإذا كانت حكمة الشَّريعة قد قضتْ بذلك؛ طلبًا لاستقرار الحياة الزوجيّة، فقد اقتضت عَدالتها أن يكون للزَّوجة حقُّ طلب التفريق بينها وبين زوجها : -إذا وُجِدَ به عَيب من العيوب التي تفوت بها ثمرات الزواج أو تختَلُّ بها العِشرة والأُلفة.

-أو كان الزوج مُعْسِرًا بنفقتها، أو ممتنِعًا من الإنفاق عليها بغير حقٍّ، أو كان يُضارُّها ويُؤذيها.

-أو خافت على نفسها العَنَتَ والسُّقوط في مَهاوِي الرذيلة بسبب غَيبته أو حبسه.

-ووقع العنَت بينهما وتغيَّرت مَسيرتهما، ولم تُفلِح مساعِي الأهل والحكماء في إصلاح ذات بينهما، وأمسكَها الزوج إضرارًا بها وقسْرًا ـ.

كان لها أن ترفع أمرها إلى القضاء المسلم صاحب الولاية في هذا دون غيره؛ إذ ليس لغير المسلم ولاية على المسلم (ولَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنينَ سَبِيلًا) “من الآية 141من سورة النساء” وعلى القاضي المسلم متى عُرِضَ عليه النزاع أن يبادِر إلى عرض الصُّلْح، فإن أعرضَا أو أحدهما كان له أن يفرِّق بينها وبينه إذا ثبت لدَيه وقوع الإضرار من جانب الزَّوْج “انظر الآيات أرقام: 230،231، 231،232، 236،237، من سورة البقرة، الآية رقم: 49 من سورة الأحزاب والآية رقم: 1 من سورة الطلاق، والآية رقم: 5 من سورة التحريم”.

لمّا كان ذلك وكانت نصوص القرآن والسُّنّة تقضي بأن الطلاق بيد الزوج دون الزوجة، يُباشِره بنفسه، وله أن يُنيبَ عنه غيره في إيقاعه إمّا بالتفويض أو بالتوكيل بالقيود التي يضعها هو لمَن يُنيبه إعمالًا للقاعدة العامة (إنَّ كل ما يجوز للإنسان التصرُّف فيه بنفسه جاز أن يوكِّل عنه فيه غيرَه وأن يكون وكيلًا فيه عن غيره، إلا ما استُثنِيَ) والطلاق مما تجوز فيه الوكالة والتفويض.

وإذ كان ذلك فمن ناحية أخرى لمن يعيش في بلاد الغرب فإنه لا يجوز للمركز الإسلامي في أي بلد ولا لأيِّ فرد أو جماعة أن يطلِّق على الزَّوج في غَيبته لأيِّ سبب من الأسباب تَدَّعِيه الزَّوجة؛ لأنَّه ليس سلطة قضائية ولا مفوَّضًا من قِبَل هؤلاء الأزواج، ولا وكيلًا عنهم، ولا حكَمًا ولا محكَّمًا من قِبَلِهما، سواء كان الزواج موثَّقًا رسمِيًّا أو استوفى شرائط العقد الصحيح دون توثيق، وهو ما يُطلَق عليه “عرفي”. كما لا يجوز التقاضي أمام محكمة قاضيها غير مسلم؛ لأن طلاق القاضي غير المسلم على المسلم غير نافذ؛ إذ  القاضي إنَّما يوقِع الطلاق على الغائب أو غيره بولايته العامة، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم، لقوله تعالى: (ولَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنينَ سَبِيلًا) “من الآية 141من سورة النساء”.

وننصح الزوجة المسلمة التي تعثَّرت حياتُها الزوجيّة أن تسعى إلى الوِفاق مع زوجها على الطلاق بالأوجُه المشروعة التي شرحها الفقهاء أخذًا من نصوص القرآن والسُّنّة؛ كالطلاق خُلْعًا أو نظيرَ الإبراء من الحقوق الزوجيّة، ولها إنْ تَعذَّر الوِفاق مع الزوج على الطلاق أن ترفَع أمرها إلى قاضٍ مسلم بالإجراءات القضائيّة المقرَّرة في القوانين واللوائح، وفي أيِّ بلد فيه قضاء إسلامي في مسائل الأحوال الشخصيّة التي ألحقَها بعض الفقهاء بالعبادات دون التقيُّد بمَوطِن العقد.