سئل شيخ الإسلام ابن تيميةعن الأغنام التي تباع، فيؤخذ مكسها من القصابين فيحتجر عليهم في الذبيحة في موضع واحد ويؤخذ منهم أجرة الذبح، ثم بعد ذلك يؤخذ سواقطها مكسا ثانيا مضمنا ثم تطبخ وتباع. فهل هي حرام على من اشتراها للأكل أم لا؟ وهل هذا التكسب فيها حرام؟ أم لا؟
فأجاب بقوله :
هذه المسألة فيها نزاع :
فمن الناس من يقول : هذا مال أخذ من صاحبه بغير حق وبيع بلا ولاية ولا وكالة فلم يصح بيعه؛ بل هو باق على ملك صاحبه وقد طبخ هذا وبيع بغير إذنه فلا يجوز شراؤه.
ومنهم من يقول : هذا مال ولاة الأمور؛ إما متأولين أو متعمدين للظلم وإذا لم يردوه إلى أصحابه كانت المصلحة بيعه؛ لأن حبسه حتى يفسد ضرر لا يأمر به الشارع ولو بيع المال بغير إذن صاحبه كان بيعه موقوفا على إجازة المالك عند أكثر العلماء وما باعه ولاة الأمر فلهم من الولاية على الأموال المجهولة التي قبضها نوابهم ما ليس لغيرهم وقد تعذر بعد القبض معرفة مالك كل رأس والمصلحة بيعها وقسمة الأثمان بين المستحقين فإن باعوها ولم يقسموا أثمانها لم يكن على المشتري إثم؛ وإنما الإثم على من يمنع أصحابها أثمانها. كما لو باع ولي اليتيم وناظر الوقف وولي بيت المال ولم يصرف الثمن إلى المستحقين فالإثم عليه؛ لا على الذي اشترى منه.
ثم الذين اشتروها وإن كان الشراء فاسدا أخذت منهم أثمانها فهم يستحقون أثمانها التي أدوها وقد نص غير واحد من العلماء كأحمد وغيره على أن من اشترى شيئا فظهر له أنه مغصوب ولم يعرف مالكه فإن له أن يبيعه ويأخذ ثمنه؛ ولكن يتصدق بالربح. والطباخون الذين اشتروا الرءوس وقد تعذر ردها : لهم أن يبيعوها ويأخذوا نظير أثمانها؛ إن لم يكن البيع الأول صحيحا وحينئذ فيكون الشراء صحيحا وقد أجازوا البيع فيجوز على قول أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
فهذه عدة مآخذ يحتج بها من يجوز الشراء. فمن اشتراها واتبع هؤلاء لم ينكر عليه ومن قامت عنده شبهة أو اعتقد التحريم فامتنع من شرائها لم ينكر عليه. ولا يمكن القطع بتحريم مثل هذا؛ فإن كثيرا لا بد للمسلمين منه هو من هذا الباب يحتجر عليه ولاة الأمور يبيعونه للناس. ولا يمكن للناس أخذه إلا من أولئك.
ومن هذا ما يكون من المباحات : كالملح والأطرون وغير ذلك. ومنه ما يكون من المملوكات. كالصوف والجلود والشعر كما يبيعونه من أموال من يصادرونه والناس يحتاجون إليه. ومن ذلك ما يقبض بحق. ومنه ما يقبض بتأويل . ومنه ما يقبض ظلما محضا؛ لكن جميع ذلك يرد إلى أصحابه؛ بل قد يتعذر رده إلى أصحابه؛ إما لجهلهم وإما لعجزه عن رده إليهم. والمجهول والمعجوز عنه سقط التكليف به وإما لإجبار المسلمين على الظلم. وعلى كل التقديرين فبيعه خير لصاحبه وللمسلمين من أن يترك فيفسد ولا ينتفع به أحد. وحينئذ فإذا كان الأصلح على هذا التقدير بيعه كان للمشتري أن يشتريه ويكون حلالا له والمشتري لم يظلم أحدا؛ فإنه أدى الثمن. والمظلوم في نفس الأمر يستحق الثمن إذا كانت المصلحة له بيعه كما يباع مال الغائب حتى لو أن رجلا مات بمكان ليس فيه ولي أمر : فقال جمهور العلماء : لرفقته ولاية قبض ذلك وبيعه.
وكذلك من عنده أموال مغصوبة وعوار وودائع لا يعرف أصحابها : فمذهب الجمهور. مالك وأبي حنيفة وأحمد أنها يجوز بيعها إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك ويجوز شراؤها.
وأصل هذا أن الله جل وعز بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها بحسب الإمكان وتقديم خير الأمرين بتفويت أدناهما. والله سبحانه حرم الظلم على عباده وأوجب العدل فإذا قدر ظلم وفساد ولم يمكن دفعه كان الواجب تخفيفه وتحري العدل والمصلحة بحسب الإمكان.
والله حرم الظلم فيما يشترك فيه الناس من المباحات وفي الأموال المملوكة لما في ذلك من الضرر على المستحقين.
فلو قيل : إن هذه الأموال لا تشترى وأنه لا يحل لأحد أن ينتفع بملح ولا جلود ولا رءوس ولا شعور ولا أصواف وغير ذلك مما يباع على هذا الوجه؛ كان المنع من ذلك من أعظم ضرر على المسلمين وفساد في الدين والدنيا من أن يقال : بل حق المظلوم عند الظالم الذي قبض ثمنها والمشتري اشتراها بحق فتحل له فإنه إذا قيل هذا كان فيه جبر حق المظلوم بإحالته على الظالم وجبر حق عموم الخلق بتمكينهم من الانتفاع بها بالأثمان؛ لا سيما وقد عرف أن أصحاب تلك الرءوس ونحوها في نفس الأمر لا يكرهون بيعها إذ لا مصلحة لهم في إفسادها فإذا بيعت فقد فعل ما يختارون فعله وما يرضونه؛ لكنهم لا يرضون أن تؤخذ أثمانها منهم؛ بل يرضون أن تدفع إليهم الأثمان. وحينئذ فهم راضون بقبض المشتري لها وانتفاعهم بها؛ ولكن لا يرضون عمن باعها إلا بأن يعطيهم الثمن فيكون هو وحده ظلمهم لم يظلمهم المشتري فتكون له حلالا.
والكلام في هذه المسألة مبسوط في غير هذا الموضع. ونكتة المنع أن المحرم لها يقول : بيعت بغير إذن ولا وكالة ولا ولاية. وهذا ممنوع؛ بل يقال : هم يرضون بيعها وقد أذنوا في ذلك؛ ولكن لم يرضوا أن تؤخذ الأثمان. كما لو قدر أن شخصا أذن لشخص فباع وأخذ الثمن لنفسه فالمالك راض بالبيع؛ دون قبضه الثمن له. ولو قدر أن المالك لم يأذن في البيع فمصلحته في الشرع تقتضي أن يباع فهذا خير من أن يفسد ولا يمكن أن يباع إلا على هذا الوجه وأن يباع ويقبض الثمن -كائنا من كان- خير من أن يفسد؛ فإنه حينئذ يمكن مطالبة البائع بالثمن مع انتفاع الناس بها وهو خير من مطالبة الغاصب بالقيمة مع فسادها. والكلام في مثل هذا يطول.