الإسلام قد منع من طلق زوجته ثلاثا أن يُراجعها ، إلا إذا تزوجت غيره زوَاجًا شرعيًّا مقصودًا منه الدوام والاستمرار ، ثم طلَّقها زوجها الثاني بغير قصد التحليل، حلَّ لزوجها الأول أن يتزوجها، ويكون زواجًا مبتدأ بعقد ومهرٍ جديدينِ، وهذا هو المشروع في الإسلام، أما الزواج بقصد التحليل فحرام بالإجماع، لأنه من الحيل المحرمة .
يقول الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله-:
إن الإسلام أباح الطلاق عندما تَسُوءُ العشرة بين الزوجين ويتحكم الشرُّ في نُفوسهما، بحيث تذهب الثمرات المَطلوبة من الزواج من السكن والمودة والرحمة، في تلك الحالة أباح للرجل أن يُعالج الأمر بإيقاع طلقةٍ واحدة، وله قبل أن تمضي العِدَّةُ أن يُراجع زوجته إليه بدون عقدٍ، فإذا ما عاد سوء العشرة إليهما أُبيح له أيضًا أن يُطلِّق مرة ثانية طلقةً رجعية، يُباح له أن يُراجعها أيضًا في أثناء العدة، فإن استقام أمرُهما وحسُنَتِ العِشْرة بينهما فبها ونعمتْ.
وإنْ ساءت ولم ينفع العلاج بالطلقتينِ الماضيتينِ أُبيح له أن يُطلق المرة الثالثة وفي هذه المرة تَبِينُ منْهُ بَيْنُونَةً كُبْرَى. لا يَحِلُّ له أن يُراجعها كما راجعها في المرتين السابقتين، وإنما تحلُّ له بشيء واحد هو أن يُصادف أنها تتزوج غيره زوَاجًا شرعيًّا، لم يُقصد منه تحليلها للأول وإنَّما قُصد منه ما يُقصد من كل زواج: عيشةً دائمةً وتكوين أُسرة، فإذا اتَّفق ولم يُصاحب زواجها الثاني التوفيق وحُسن العشرة، بل ساءت العشرة بينهما، وطلَّقها زوجها الثاني ـ لسوء العشرة مثلًا ـ حلَّ لزوجها الأول بعد مُضِيِّ عدَّتُها من الثاني أن يتزوجها، ويكون زواجًا مبتدأ بعقد ومهرٍ جديدينِ.
وهذا هو المشروع في الإسلام، والذي ورَد به نصُّ القرآن، ففي الطلقتينِ الرجعيتينِ، أيْ اللتينِ يملك فيهما الرجل مُراجعةَ زوجته، يقول الله ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مرَّتانِ فإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). (الآية: 229 من سورة البقرة)، وفي الطلْقة الثالثة يقول: (فإنْ طلَّقَها فلا تَحِلُّ لهُ مِن بعدُ حتَّى تَنْكِحُ زوْجًا غيْرَهُ). (الآية: 230 من سورة البقرة)، والمقصود أنه إذا طلَّقها طلقةً ثالثةً بعد السابقتينِ لا تحلُّ حتى تتزوَّج غيره زواجًا شرعيًّا مقصودًا منه الدوام والاستمرار.
الزواج بقَصْد التحليل حرام بالإجْماع:
ومن هنا يَتَبَيَّنُ أن الزواج بقصد التحليل لم يكن مُرادًا من الآية. وقد جاء النهْي عن زواج التحليل بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: “لعَن الله المُحلِّل والمُحلَّل له” وبقوله: “ألَا أُخبركم بالتَّيْسِ المُستَعار، قالوا بلى يا رسول الله، قال هو المُحلِّل، لعَن الله المُحلِّل والمُحلَّل له” وصحَّ عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: “لا أُوتَى بمُحلِّل ولا مُحلَّل له إلا رجمتهما”.
وقال الإمام ابن تيمية:”نِكاح المحلل حرام بالإجماع”،وقال الشيخ محمد عبده:”إن نكاح التحليل شَرٌّ مِن نِكاحِ المُتْعة وأشدُّ فسادًا وعارًا”،وكيف لا يكون كذلك وهو زواج لم يُقصد فيه المُحلِّل إلى تكوين أُسرة، ولم يقصد منه دوامًا ولا استمرارًا، ولا سكنًا ولا مودةً؟ وكيف لا يكون حرامًا وهو زواج يفعله أصحابه مع التستُّر والكتمان، خوْف الفضيحة والعار إذا عُلم واشتهر ، فهذا يدلُّ على أنه لا يقل عن اختلاط المَقْتٍ والفاحشة والمُنْكر لا تتقبله النفوس، فكيف يكون مشروعًا، ويفعل باسم الدين؟؟
احتيالٌ آخر أبْشَعُ من التحليل:
ومن الفتاوَى الماجنة هذه الفتوى الأخرى التي أُشيرَ بها على رجلٍ طلَّق زوجته ثلاث مرات مُتفرقات اتقاءً لهذا التحليل المُنكَر وبُعدًا عن التُّيُوسَة المُستعارة، هذه الفتاوى هي اعتبار أن الزواج الذي انتهى بهذا الطلاق كان زواجًا باطلًا؛ لأنه كان بغيرِ وَلِيٍّ، أو كان في شُهوده مَن يترك الصلاة، أو يُؤَخِّرُها عن وقتها، وبذلك يكون الطلاق قد وقع على غير زوجة! فيَصحَّ للرجلِ الذي كان معها أن يُعقد عليها عقْدًا جديدًا مبتدءًا غير العقد الأول الذي وقع باطلًا، وهذه مسألة يُسميها بعض الناس “إسقاط التحليل” وهو نوع من الاحتيال أبشع من الاحتيال بالتحليل نفسه، واتَّقاء التحليلِ به ـ اتقاء الرِّجْس بالرِّجْس، بل بِرِجْسٍ أشد!
وفيه يقول ابن تيمية:”مَن أخذ ينظر بعد الطلاق في صِفَةِ عقْد الزواج ولم ينظر في صفتِه قبل ذلك، ويقول: أنا تزوجتُ بوليٍّ وشُهود فُسَّاقٍ، فلا يقع طلاقي؛ لأن زواجي كان باطلًا، كان من المُتعدينَ لحُدود الله، وهو يُريد أن يستحلَّ محارم الله قبل الطلاق وبَعْدَهُ”!
أَلَا فلْيَتَّقِ اللهَ هؤلاء المُفتون، وليتَّقِ اللهَ الناسُ في دينهم وأعراضهم. ولْيَخْشَ الجميع يومًا لا تنفعهم فيه زوجةٌ ولا دِرْهمٌ ولا دينار.