إذا لم يكن هناك إلزام قانوني لا يستطيع الناس له دفعًا، أو ضرورة عملية تقتضي مثل هذا التابوت، كأن تكون التربة طينية لزجة لا يثبت عليها جثمان الميت أو نحو ذلك من الضرورات العملية، فإن إنفاق الأموال في مثل هذا السبيل يكون غير مشروع.
وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للإفتاء بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، وهذا نص فتواها في ذلك :
تجهيز الميت في التابوت على النحو الذي يجري عليه العمل لدى غير المسلمين ينطوي على جملة من المفاسد منها:
1ـ أنه تشبه بغير المسلمين وقد نهينا عن ذلك، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: “من تشبه بقوم فهو منهم”([1]),وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، ثم يكون الحكم في هذا المتشبه بحسب القدر الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصيةًأو شعارًا لها كان حكمه كذلك..
ومن يستقرئ نصوص الشريعة المطهرة يدرك أن المخالفة للكافرين أمر مقصود للشارع، فقد أمرنا بتغيير الشيب مخالفة لليهود، وأمرنا بإعفاء اللحى وإحفاء الشوارب مخالفة للمشركين والمجوس، ونهينا عن حلق القفا مخالفة للمجوس، ونهينا عن ترك الصلاة في النعال مخالفة لليهود، وأمرنا بالسحور وتعجيل الفطر مخالفة لأهل الكتاب، وأمرنا بمؤاكلة الحائض والاجتماع بها في البيوت مخالفة لليهود، وندبنا إلى اللحد في القبر، فهو الذي تكلفه الصحابة لشهداء أحد مع ما كانوا فيه من الجهد والمشقة، فقد روى البخاري أن النبي كان يجمع بين رجلين من قتلى أحد ثم يقول:أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وعللت الفضيلة في اللحد بقوله ﷺ:”اللحد لنا والشق لغيرنا “([2]), وفي رواية لأحمد “والشق لأهل الكتاب “([3]),ونهينا عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها حسمًا لمادة مشابهة الكفار… إلى غير ذلك من الأحكام التي تقرر هذا الأصل وتبين أنه مقصود للشارع.
2ـ ومنها مخالفة المعهود من هديه ﷺ في تجهيز الميت ودفنه،إذ لم يؤثر عنه ولا عن أحد من أئمة المسلمين شيءمن ذلك، ولا جرى عليه عمل أحد من المسلمين ـ فيما نعلم ـ على مدار القرون، فقد كان هديه ﷺ في الميت بعد غسله وتكفينه أن يلحد له ويفضي به إلى الأرض، فقد روى مسلم في صحيحه أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال في مرضه الذي مات فيه:”ألحدوا لي لحدًا وانصبوا على اللبن نصبًا، كما صنع برسول الله ﷺ “([4])، واستحب أهل العلم أن يجعل الميت في قبره على جنبه الأيمن ووجهه تجاه القبلة، وأن يوضع شيء خلفه من لبن أو تراب يسنده، وأن يوسد رأسه بلبنة أو حجر أو تراب، وينحي الكفن عن خده، ويفضي بخده إلى التراب، قال عمر رضي الله عنه: إذا أنزلتموني إلى اللحد فأفضوا بخدي إلى التراب، وأوصى الضحاك أن تحل عنه العقد ويبرز خده من الكفن.
3ـ ومنها إضاعة الأموال وإهدارها فيما لا طائل تحته، فإن الورثة الأحياء أولىبهذه الأموال المضاعة من الميت، أو من هذه المؤسسات التجارية التي تستثمر مصائب البشر وتتخذ منها سبيلاً إلى الإثراء الفاحش والاستغلال البغيض.
فما لم يكن ثمة إلزام قانوني لا يستطيع الناس له دفعًا، أو ضرورة عملية تقتضي مثل هذا التابوت، كأن تكون التربة طينية لزجة لا يثبت عليها جثمان الميت أو نحو ذلك من الضرورات العملية فإن إنفاق الأموال في مثل هذا السبيل لا يشرع لما سبق بيانه من الأسباب.
([1])أخرجه أحمد في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (4868)، وأبو داود في سننه كتاب اللباس باب في لباس الشهرة (3521) وسكت عنه علامة على صلاحه للاحتجاج، وجوده ابن تيمية في مجموع الفتاوى 25/331, وصححه الذهبي في السير 15/509, والعراقي في تخريج الإحياء 1/359, وحسنه ابن حجر في الفتح 10/282, وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند 7/121, والألباني في الإرواء (1269).
([2]) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الجنائز باب في اللحد (2793), والترمذي في سننه كتاب الجنائز باب ما جاء في قول النبي ﷺ ” اللحد لنا… ” (966)، وقال: حديث حسن غريب، والنسائي في سننه كتاب الجنائز باب اللحد والشق (1982),
وابن ماجة في سننه كتاب ما جاء في الجنائز باب ما جاء في استحباب اللحد (1543)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5489).
([3]) أخرجه أحمد في مسنده في أول مسند الكوفيين من حديث جرير بن عبد الله عن النبي ﷺ (18416), قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم 1/233: مروي من طرق فيها لين، لكن يصدق بعضها بعضا، وقال الألباني في جلباب المرأة: له شاهد.
([4])أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجنائز باب في اللحد ونصب اللبن على الميت (1606), والنسائي وابن ماجة في سننهما.